يعتبر كتاب (الكلمات والأشياء) ليس أهم ما كتب ميشيل فوكو وعبّر عن فلسفته فحسب، ولكنه كذلك أفضل شاهد على قدرة العقل في إعادة اكتشاف أنظمته المعرفية، ومراجعتها لأول مرة في تاريخ الفلسفة الحديثة خارج الأطر الإيديولوجية التي اعتادت أن تقنعها وتستخدمها.
أنت هنا
قراءة كتاب الكلمات والاشياء
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
في هذه الدراسة إنما نريد تحليل هذه التجربة. فالمقصود هو تبيان ما استطاعت أن تصيرَه، منذ القرن السادس عشر، وسط ثقافة كثقافتنا: فبأية طريقة، بصعودها، كما لو كان عكس التيار، [وتلك] اللغة كما كانت متكلمة، والكائنات الطبيعية كما كانت مدركة ومجمّعة، والمبادلات [التجارية] كما كانت ممارسة، قد أظهرت ثقافتنا أن ثمة نظاماً وأن التبادلات مدينة بقوانينها والكائنات الحية بانضباطها، والكلمات بتسلسلها وقيمها التمثيلية لصيغ هذا النظام، وأي صيغ من نظام قد عُرفت وطرحت وربطت مع المكان والزمان لكي تشكل القاعدة الإيجابية للمعارف كما هي منتشرة في النحو وفي فقه اللغة، في التاريخ الطبيعي وفي علم الأحياء، وفي دراسة الثروات وفي الاقتصاد السياسي. وكما نرى فإن مثل هذا التحليل لا ينتمي إلى تاريخ الأفكار أو تاريخ العلوم، وإنما هو بالأحرى دراسة تجهد في العثور على المنطلق الذي كانت منه المعارف والنظريات ممكنة، وحسب أي مدى من النظام تكونت المعرفة، وعلى خلفية أية قبلية تاريخية وفي عنصر أي وضعية تمكّنت أفكار من الظهور، وعلوم من التكون وتجارب من الانعكاس في الفلسفات، وعقلانيات من التشكّل وربما كي تنفرط بعد ذلك وتتلاشى. لن يكون الموضوع إذن موضوع معارف موصوفة في تقدمها نحو موضوعية يستطيع علمنا اليوم أخيراً أن يتعرف إلى نفسه فيها. إن ما نريد تبيانه هو الحقل المعرفي، الإبستيمية épistémè حيث المعارف ـ منظوراً إليها خارج أي معيار يستند إلى قيمتها العقلية أو إلى صورها الموضوعية ـ تغرز وضعيتها وتظهر هكذا تاريخاً ليس تاريخَ كمالها المتزايد وإنما بالأحرى تاريخَ شروط إمكانيتها؛ ففي هذا العرض، ما يجب أن يظهر، إنما هو في داخل مدى المعرفة، التشكّلات التي ولدت الصور المختلفة للمعرفة التجريبية. وبدلاً من تاريخ بالمعنى التقليدي للكلمة، فإن ما نعنيه هو «أركيولوجيا archeologie»(**).
لكن هذا الاستقصاء الأركيولوجي قد بيَّن انقطاعين كبيرين في إبستيمية الثقافة الغربية: الانقطاع الذي دشن العصر الكلاسيكي (نحو منتصف القرن السابع عشر) وذلك الذي طبع في بداية القرن التاسع عشر عتبة حداثتنا. والنظام الذي نفكر على أساسه لا يملك صيغة الوجود نفسها التي يتملكها نظام الكلاسيكيين. وعبثاً كنا نملك الانطباع عن حركة شبه مستمرة للعقلانية الأوروبية منذ عصر النهضة وحتى أيامنا، وعبثاً فكّرنا أن تصنيف لينيه Linné، بعد تعديله، يستطيع بشكل عام الاستمرار في امتلاك نوع من الصلاحية، وأن نظرية القيمة لدى كوندياك Condillac نجدها في قسم منها في هامشية (marginalisme) القرن التاسع عشر، وأن كينز Keynes قد شعر تماماً بقرابة تحليلاته من تحليلات كانتيون Cantillon، وأن موضوع «قواعد النحو العامة» (كما نجدها لدى مؤلفي بوررويال أو لدى بوزيه Bouzée) ليسَ شديدَ البعِد عن ألسنيَّاتنا الراهنة. فشبه الاستمرارية هذه على صعيد الأفكار والموضوعات ليست دون شك سوى تأثير في السطح، أما على الصعيد الأركيولوجي، فإننا نرى أن نسق الوضعيّات قد تغيّر بطريقة كثيفة عند منعطف القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر. لا لأن العقل قد حقّق تقدّماً، وإنما لأن صيغة وجود الأشياء، والنظام الذي، إذ يوزعها يُقدّمها للمعرفة، كانت قد تغيّرت بشكل عميق. فإذا كان التاريخ الطبيعي لـ تورنفور Tournefor ولينيه Linnéوبوفون Buffon على علاقة مع شيء آخر غير نفسه، فليس مع علم الأحياء أو التشريح المقارن لـ كوڤييه Cuvier أو مع تطورية داروين، وإنما مع «قواعد النحو العامة»لـ بوزيه، ومع تحليل النقد والثروة كما نجده لدى لو Low وڤيرون دي فوربونيهVéron de Fortbonnais أو لدى تورغو Turgot. إن المعارف قد تتوصل إلى أن تتوالد بعضها من بعض، والأفكار إلى أن تتحول وأن يؤثر بعضها في بعضها الآخر (لكن كيف؟ حتى الآن لم يقل لنا المؤرخون ذلك)؛ شيء مؤكد على كل حال: هو أن الأركيولوجيا، إذ تتجه إلى مدى المعرفة العام، إلى تشكلاتها وإلى صيغة وجود الأشياء التي تظهر فيها، إنما تحدّد أنساق التزامن، وكذلك سلسلة التحولات الضرورية والكافية لعصر، عتبة، وضعية جديدة.
هكذا استطاع التحليل أن يبيّن التماسك الذي وجد على مدى العصر الكلاسيكي بين نظرية التمثيل ونظريات اللغة والنظم الطبيعية والثروة والقيمة. هذا التشكل هو الذي تغيّر كلياً بدءاً من القرن التاسع عشر؛ فنظرية التمثيل اختفت كأساس عام لكل النظم الممكنة، كما أن اللغة بوصفها لوحة عفوية وإحاطة أولية للأشياء، محطة لا غنى عنها بين التمثيل والكائنات، تمحي بدورها، وتدخل تاريخانية عميقة إلى قلب الأشياء فتعزلها وتحددها في تماسكها الخاص، وتفرض عليها أشكالاً من النظم التي تحتويها ضمناً استمرارية الزمن؛ وتحليل المبادلات والنقد يتخلى عن مكانه لدراسة الإنتاج، وتحليل الجهاز يتغلب على البحث عن السمات التصنيفية، خصوصاً وأن اللغة تفقد مكانتها المتميزة وتغدو بدورها وجهاً متماسكاً للتاريخ مع كثافة ماضيها. إلا أنه بمقدار ما كانت الأشياء تلتفّ على نفسها غير طالبة سوى أن تصبح مبدأ معقوليتها ومتخلية عن مجال التمثيل، فإنّ الإنسان بدوره يدخل، وللمرة الأولى، في ميدان المعرفة الغربية. وبشكل غريب فالإنسان ـ الذي تعتبر معرفته في نظر العيون الساذجة أقدم بحث منذ سقراط ـ ليس دون أي شك شيئاً أكثر من مجرد تمزّق ما في نظام الأشياء، وتشكلاً، على كل حال، رَسَمَهُ الوضع الجديد الذي أخذه أخيراً في المعرفة. ومن هنا ولدت كل أوهام الإنسانيات الجديدة، وكل سهولات «الأنتروبولوجيا» المفهومة على أنها تأمل عام، نصف وضعي ونصف فلسفي، في الإنسان. ومع ذلك فإن من المشجع ومن المطمئن بعمق التفكير بأن الإنسان ليس سوى ابتكار قريب، ووجهه لا يزيد عمره على قرنين، ثنية بسيطة في معرفتنا، وأنه سيختفي ما أن تجد هذه المعرفة صورة جديدة.
من الملاحظ أن هذا البحث يستجيب إلى حد ما، كصدى، لمشروع كتابة تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، فهو يملك في الزمن المفاصلَ نفسها، آخذاً انطلاقه من نهاية عصر النهضة، وواجداً هو أيضاً، على منعطف القرن التاسع عشر، عتبةَ الحداثة التي لم نخرج منها بعد. ففي حين أننا نسأل في تاريخ الجنون الطريقةَ التي تستطيع بها ثقافة ما أن تطرح في شكل كثيف وعام الاختلاف الذي يحدها، فإن المقصود هنا أن نلاحظ الطريقة التي نتقبل فيها تقارب الأشياء التي تضع هي لوحة قرابتها والنظام الذي يجب بمقتضاه قراءتها. إن الهدف إجمالاً وضعُ تاريخ التشابه: بأية شروط استطاع الفكر الكلاسيكي أن يعقل، بين الأشياء. علاقاتٍ متشابهة ـ تعادل ـ أو تؤسس وتبرز الكلمات والتصنيفات والمبادلات؟ وانطلاقاً من أي قبلية تاريخية كان من الممكن تحديد الرقعة الكبرى للهويات المتمايزة التي تقوم على خلفية مشوّشة، غير محدّدة، لا وجه لها وكأنها لامبالية بالاختلافات؟. إن تاريخ الجنون قد يكون تاريخ الآخر ـ تاريخ ما هو ـ بالنسبة إلى ثقافة ما، في آنٍ واحد داخلي ودخيل، أي ما يتوجّب استبعاده (لا لتجنّب خطره الداخلي) ولكن بسجنه (للحدِّ من آخريته)، أما تاريخ نظام الأشياء فسيكون تاريخ الذات ـ تاريخ ما هو بالنسبة إلى ثقافة ما في آنٍ واحد مبعثر ومتقارب، أي ما يتوجب تمييزه بعلامات وتلقّيه في هويات.
وإذا فكرنا أن المرض هو في آنٍ واحد الفوضى وغير الخطير في الجسم البشري وحتى قلب الحياة، وكذلك ظاهرة طبيعية لها ضوابطها وأشباهها وأنماطها ـ فإننا نرى أي مكانة يمكن أن تملكها أركيولوجيا النظرة الطبية. فمن التجربة ـ الحدّ عن «الآخر» إلى الأشكال المقومة للمعرفة الطبية، ومن هذه إلى نظام الأشياء وإلى فكر الذات، فإن ما يتقدم للتحليل الأركيولوجي إنما هو كل المعرفة الكلاسيكية أو بالأحرى هذه العتبة التي تفصلنا عن الفكر الكلاسيكي وتؤلف حداثتنا. وعلى هذه العتبة ظهر، للمرة الأولى، هذا الشكل الغريب من المعرفة الذي نطلق عليه اسم الإنسان، والذي فتح مجالاً خاصاً للعلوم الإنسانية. وإذ نحاول أن نُخرج إلى النور هذا التباين العميق في المستويات داخل الثقافة الغربية، فإنما نعيد انقطاعاتها، وعدم استقرارها، وتصدّعاتها إلى أرضيتنا الصامتة والساكنة بسذاجة، هذه الأرضية التي تقلق من جديد تحت وقع خطواتنا.