"الآباء اليسوعيون"؛ هذا كتاب خارج عن المألوف بموضوعه ومضمونه.
أنت هنا
قراءة كتاب الآباء اليسوعيون
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الفصل الأول
السيرة والمسيرة
نشأة الرهبانية اليسوعية ناتجة عن تلاقي زمن استثنائي ورجل متميز؛ إذ في القرن السادس عشر طرأت تغيّرات لم يكن لها مثيلٌ في تاريخ البشرية، من اكتشاف العوالم الجديدة مع كريستوف كولومبوس وفاسكو دي غاما وماجلان وكوبرنيك، إلى إعادة اكتشاف قيم الأنسنة (Humanisme) في الأزمنة الغابرة والعالم الملحد. أما رجل اللحظة التاريخية تلك، فهو إينيغو لوبيز دي لويولا أو أغناطيوس، وهو من بلاد الباسك الإسبانية، الذي أبصر النور عام 1491.
في تلك الفترة شعرت أوروبا أنها محاصرة من جميع الجهات، فهلعت عندما اتضح لها أنها لم تعد وحيدة في العالم بعد اكتشاف أميركا، وأنها محاطة بممالك ذات شأن ونفوذ، فأخذت تبحث عن وصيّ يدافع عنها. لذلك، حاولت سلالة الهابسبورغ(*) إعادة إحياء «الأمبراطورية المقدسة»(**)، الأمر الذي لم يكن يحوز على رضا عائلات الفالوا(***) والتودور(****) والبابا في روما، إضافة إلى الأمراء الألمان البروتستانت كما الأتراك.
عندما أصبح فرانسوا الأول وهنري الثامن ويوليوس الثاني وشارلكان على أهبة الاستعداد، كانت القارة القديمة عرضة لحرب مدمّرة اجتاحتها باستثناء مملكة إسبانيا التي عرفت عصرها الذهبي. ففي جنوب البيرينيه أرست الملكة إيزابيل والملك فرديناند الكاثوليكيان، ركائز دولة منيعة بعد سقوط الأندلس وفتح أميركا والسيطرة على إيطاليا وأوروبا الوسطى، وبسطا عبر هذه الطريقة الهيمنة على العالم. لكن على الرغم من قوّتها وتوسعها، لم تكن إسبانيا في بداية القرن السادس عشر في أحسن حالاتها، ولم يتمكن ذهب أميركا وكنوزها التي موّلت الجيوش والأساطيل، من منع هجرة سكان قشطالة وأراغون وكاتالونيا، وذلك بسبب تكاثر عمليات السطو والفوضى الأمنية في أرجاء المملكة.
أما في نافارا ومقاطعة كويبوذكوا مسقط رأس إينيغو وعائلة دي لويولا، التي تعني «مواجهة العدو»، فقد كانت الخلافات الداخلية على أشدها بين مختلف مكوّنات هذه المناطق، من الناحية الاجتماعية والإكليريكية، في حين أنّ الكنيسة الكاثوليكية التي توالى على حكمها خلال تلك الفترة بابا من عائلة بورجيا أي اسكندر السادس، ثم حبر أعظم من سلالة ميديسيس أي لاون العاشر، وثالث من قبيلة فارنيزي أي بولس الثالث، أصبحت مكاناً تتجمع فيه المياه الآسنة، وغدت روما مركز الفساد من جميع النواحي وعلى كل الأصعدة.
يقول المؤرخ اليسوعي إميل ريدو1: إن «القديسين الكبار يظهرون في الأوقات المناسبة، لهذا السبب كانت المجموعة البشرية التي أسسها القديس إغناطيوس متأتية من عصر النهضة في اتحاد وثيق مع أهدافها، ولكن أيضاً في تناقض وحرب مفتوحة مع كل ما تحمله روح النهضة من أمور زائفة وغير إنسانية». ونلاحظ في هذا السياق بوادرالإعجاب بعصرالنهضة عند القديس إغناطيوس حتى بعد اهتدائه، ما يفسر لجوءه إلى وسائل زمنية من أجل الوصول إلى غايات روحية، وربما يفسر أيضاً انزلاق الرهبانية اليسوعية إلى خبايا السلطة وإلى واجهة المآسي السياسية.
عندما باشر إغناطيوس وضع سيرته الذاتية2 أو «حكاية الحاج»، طلب مساعدة البرتغالي لويس غونسالفيز دا كامارا الذي كتب أنه يتحدر من عائلة نبيلة وعريقة بالقرب من مدينة إثبيتيا الصغيرة، وهي التي لم تكن تقبل بين رعاياها أي مسيحي مهتدٍ من اليهود أو المغاربة المسلمين. تجدر الملاحظة، هنا، إلى أن قصر دي لويولا قد تم تشييده بطريقة تسمح لقاطنيه بمقاومة أي حصار، وأنّ المنزل العائلي (La casa y solar) الذي ورثه والد إينيغو كان نوعاً من منزل ريفي يتضمن حصناً منيعاً لصد الغزوات.
وهب والد إغناطيوس ابنه الأصغر إلى الحياة الأكليريكية كما كانت تقضي العادات في القرن السادس عشر، ثم اختار له قبل وفاته مهنة السلاح... أغناطيوس هو الابن الأصغر لبلتران دي أوناز وزوجته الدونا مارينا سانشيز دي ليكونا، وكان إخوته من العسكريين، الذين قتل أحدهم في ساحة الحرب في هنغاريا، واثنان منهم أمام جدران مدينة نابولي، في حين لقي الأخ الرابع مصرعه في أميركا مع جيوش المستعمرين الإسبان. لقد أرسل إينيغو بعد وفاة والديه إلى بلاط قشطالة حيث أصبح الملك فرديناند يحكم إسبانيا وحيداً بعد وفاة زوجته الملكة إيزابيل الكاثوليكية قبل سنتين، وكان إينيغو يبلغ من العمر 14 عاماً، فاحتضنه الدون خوان فيلاسكيز دي كويلار خازن قشطالة العام، الذي كان يسكن في مدينة أريفالو الواقعة بين فالادوليد العاصمة السياسية وسلمنكة العاصمة الثقافية، حيث بقي عشر سنوات وأتقن فن الخط، الأمر الذي كان يتباهى به، والذي لعب دوراً محورياً في حياته الروحية.
نشأ إينيغو في جو مشاغب ومترف صنع منه عاشقاً لألعاب القمار والنساء والسلاح وجميع أنواع الملذات. في عام 1515 أقحم نفسه مع أخيه بدرو في مشكلة خطيرة لم تؤدِ إلى إعدامهما بعد الدعوى القضائية التي أقيمت في حقهما. هذا يؤكد أنّ ما ارتكباه لم يكن جريمة قتل، إذ لم تُعرف فحوى الارتكابات في النصوص التي صدرت في هذا الشأن. تبيّن لاحقاً من نتائج التحقيق أنها كانت أعمال عنف في حق الإكليروس الرعوي وتمت تحت جنح الظلام، وعن سابق تصور وتصميم.
من جهته، تحدّث الأب ألبير لونشان اليسوعي3 عن خلاف بين عائلة لويولا واكليروس إثبيتيا، لا تزال وثائقها محفوظة حتى اليوم. تجدر الإشارة إلى أن بدرو أخ أغناطيوس الذي أصبح لاحقاً رئيس دير سان سيباستيان في مدينة إثبيتيا القريبة من قصر دي لويولا كان له أربعة أولاد غير شرعيين. هرب إينيغو إلى بمبلونه وسلّم نفسه إلى المحكمة الأسقفية التي قضت بسجنه مدة قصيرة، ولم تتم إدانة شقيقه بدرو الذي أفاد من حماية نافذة لعبت دوراً هاماً في تهربه من العدالة.
في عمر الست عشرة سنة كان إينيغو حليق الشعر دائرياً في أعلى الرأس، وهي الإشارة التي كانت تدل على كونه ينتمي إلى السلك الأكليريكي. على أثر وفاة دون خوان فيلاسكيز الذي فقد حظوته في البلاط الملكي بعد أن أرهقته الديون، والذي وافاه الأجل عام 1517، زودت زوجة الدون خوان إينيغو بمبلغ 1500 إيسكودس(*****)، ونصحته بالذهاب إلى بمبلونه وعرض خدماته على الدوق دي ناخيرا الذي كان قد عيّن في أيار 1516 نائباً لملك نافارا. وعندما ثارت ناخيرا على سيدها، أرسل هذا الأخير إينيغو على رأس حملة عسكرية تأديبية انتهت باستسلامها وتعرّضها للنهب.