"الآباء اليسوعيون"؛ هذا كتاب خارج عن المألوف بموضوعه ومضمونه.
أنت هنا
قراءة كتاب الآباء اليسوعيون
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
قرّرت المجموعة الذهاب إلى القدس عند انتهاء الدراسة، وفي حال استحالة هذا المشروع، القيام بالسفر إلى روما ووضع أنفسهم تحت تصرف الحبر الأعظم؛ هكذا اتخذ أعضاء المجموعة قرار الانضواء إلى السلك الكهنوتي وقرروا قسم اليمين يوم عيد انتقال السيدة العذراء. في 15 آب 1534 قصدت المجموعة محلة مونمارتر في الصباح الباكر، واجتمعت في كنيسة القديس دوني، وشاركت في القداس الإلٓهي الذي ترأسه فافر والذي كان قد رُسم كاهناً في 30 أيار. عندما حان وقت المناولة، أعلنوا عن نذورهم وهي الطريقة نفسها التي يتبعها الآباء اليسوعيون حتى اليوم، عندما يضعون على مذبح الكنيسة نصاً مكتوباً وموقعاً يعلن عن التزاماتهم الدينية... هذه النذور تشمل التعهد باتباع حياة الفقرالإنجيلي، والتبتل، والطاعة الدائمة، وتوفير العلم للأطفال والمعوزين، والتقيد بجميع المهمات التي يحددها البابا دون تردد أو شروط.
إن نذور مونمارتر التي لم تتخذ طابعاً رسمياً لا يمكن دمجها في إعلان تأسيس الرهبانية اليسوعية، ولكنها تؤكد على تمايز هذه الرهبانية المستقبلية، من سمات الحياة المشتركة إلى الانفتاح على العالم، إلى الطاعة العمياء في هذه الحقبة الصعبة من تاريخ الكنيسة الكاثوليكية. في هذا الوقت، برزت تيارات دينية كثيرة تدعو إلى ضرورة ضخ دم جديد وأفكار جديدة في جسم الكنيسة المتعب وسط أزمة روحية عميقة في تاريخ الديانة المسيحية. في هذه الأجواء انعقد مؤتمر أوكسبورغ(******) عام 1530 الذي أرسى قواعد اللوثرية(*******) انطلاقاً من 28 بنداً حرّرها ميلانشتون الذي نجح في استقطاب قسم كبير من الأمراء الألمان، وتخلّى ملك إنكلترا هنري الثامن عن روما في كانون الثاني 1533، وهو الذي حكم بعقوبة الموت عام 1535 على طوماس مور الذي رفض الانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية.
وفي عام 1536 نشر كالفن(********) الطبعة اللاتينية لـ«المؤسسة المسيحية»، مما أدى إلى موجة عارمة من الروحانية عمّت جميع أرجاء إسبانيا الكاثوليكية وإلى انفصال الكثيرين عن روما. لاحقاً، برزت قضية الملصقات الجدارية (l’affaire des placards) في تشرين الأول 1534 التي زرعت التشويش والحيرة في جميع أرجاء باريس، مما أدى إلى وقوع اضطرابات دامية استمرت ردحاً من الزمن. أصدر الملك فرانسوا الأول مرسوماً عام 1535 أمر فيه بالقضاء على النزعة اللوثرية، والجدير بالذكر أنه في ليل 17-18 تشرين الأول 1534 استفاق المواطنون في باريس وأمبواز على ملصقات تهاجم العقيدة الكاثوليكية ورموزها، حتى قيل إن بعضها وجد ملصقاً على باب غرفة نوم ملك فرنسا.
في عام 1534 تمّ انتخاب البابا بولس الثالث الذي سارع إلى تعيين لجنة بغية درس الإصلاحات اللازمة. منذ نهاية أعمال مجمع لاتران الديني في العام 1517، اتخذت عدة إجراءات من أجل إعادة تقييم أوضاع الكنيسة الكاثوليكية السيئة. لكنه تمّ القضاء على محاولات الاصلاح بسبب سوء إدارة مختلف أجهزة الكرسي الرسولي، إضافة إلى الخلافات بين الأمراء والكنيسة، والتنافس المستمر والعقيم بين كبار رجال الدين، مما أدى إلى فقدان الثقة بالكنيسة.
في مثل هذه الأجواء المحمومة، تصدت مجموعة مونمارتر للواقع الأليم، وفي 25 آذار 1535 غادر أغناطيوس رفاقه من أجل إنهاء دروسه اللاهوتية، وانتظار وصول أعضاء مجموعته. وصل «الباريسيون» إلى البندقية في الثامن من كانون الثاني 1537، إضافة إلى ثلاثة رفاق جدد تمت رسامتهم كهنة في شهر حزيران، استعداداً للسفر إلى الأراضي المقدسة في فلسطين. ولكن ذلك لم يحصل خلال تلك السنة، ولم تغادر أية باخرة مرفأ البندقية نظراً لكون البحار غير آمنة في هذا الوقت؛ وتنفيذاً للنذر الذي قطعه هؤلاء الرفاق العشرة غادروا إلى روما من أجل وضع أنفسهم في تصرف الحبر الأعظم. قبل دخوله عاصمة الكثلكة، كانت كنيسة نوتردام دو لاستورتا الصغيرة، المحطة الأخيرة لأغناطيوس قبل روما، وفي هذا المكان يُقال إن السيدالمسيح عليه السلام ظهر له وطلب منه أن يخدمه. من هنا أتى اسم رفقة يسوع، وبقي هذا المعبد على (via Cassia) وجهة حج اليسوعيين... وفي الرابع من أيلول عام 1983، وفي هذا المكان بالذات، أعلن الجنرال اليسوعي بدرو أروبي وهو في حالة المرض الشديد عزمه على الاستقالة من منصبه، وهو الوعد الذي لم يستطع المحافظة عليه إذ كان النذر الرابع أي الطاعة العمياء للحبر الأعظم أهم وأقوى من كل شيء. بعد المداولات توزع الرفاق الأوائل إلى عدة مجموعات، كي لا يسافروا معاً، وتناقشوا في ما يقولون إن سُئلوا في روما عمن يكونون، وعندما لمسوا أن لا رئيس لهم إلا السيد المسيح، رأوا أنه من المستحسن أن يطلقوا على أنفسهم تسمية شركة أو رفقة يسوع.
فور وصول المجموعة إلى روما، تعرضت إلى أسوأ حملات التشهير، وكانت إشاعة الكفر أسرع من الهواء إذ سبقت قدوم أغناطيوس ورفاقه. بعد التغلب على هذه المحنة في كانون الأول 1538، حصلوا على إذن مقابلة البابا، ووضعوا أنفسهم تحت تصرفه وأعربوا عن استعدادهم للذهاب إلى أية وجهة يختارها رئيس الكنيسة الكاثوليكية. أعجب البابا بتفاني هؤلاء الكهنة وطاعتهم، وكان في أمسّ الحاجة إلى هذا النوع من الإكليريكيين، فأوكل إليهم مهمة نشر التعليم المسيحي لدى أطفال روما، وعندما ذاع صيتهم بسرعة فائقة، طالب شارلكان بإرسالهم إلى الهند الإسبانية وبولس الثالث إلى الهند البرتغالية. في هذا الوقت وردت ترشيحات جديدة، فعاد أعضاء المجموعة إلى الاجتماع والتداول، وقرّروا تسمية رئيس لهم والمحافظة على تسمية «جمعية يسوع سيدنا وإلهنا»، ودامت النقاشات من آذار إلى حزيران 1539. في هذا الوقت بالذات، انكب أغناطيوس على تحضير ملف يتعلق بمميزات الرهبانية اليسوعية، على الرغم من انتشار أعضاء المجموعة في سيينا، وبارما، وبلايزنس، ونابولي وبرشيا.
حدّد أغناطيوس في كتاباته، كأولويات، مساعدة الناس ونشر الإيمان بواسطة التبشير والأعمال الخيرية والتعليم المسيحي، والولاء والطاعة العمياء للأب الأقدس بولس الثالث ومن يخلفه على الكرسي الرسولي، دون تردد أو مماطلة أو اعتراض. نعم، لقد أوضح القديس أغناطيوس بصراحة تامة أنه سيذهب مع رفاقه إلى «الأتراك أو إلى العوالم الجديدة أو عند اللوثريين أو أي طرف مؤمناً كان أم كافراً». وفي الوقت الذي كانت فيه طريق القدس غير سالكة، فتحت أمام الرهبان اليسوعيين جميع طرقات العالم القديم والعالم الجديد، مما جعلهم يحوزون على ثقة بولس الثالث، وتمت الموافقة الرسمية الخطية على هيكلية الرهبانية في27 أيلول 1540، عندما وقع البابا البراءة البابوية (Regimini Militantis Ecclesiae) أي ولادة الرهبانية اليسوعية.