كتاب " اكتشاف جزيرة العرب خمسة قُرون من المغامرة والعِلم " ، تأليف حمد الجاسر ترجمه إلى العربية قدري قلعجي ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي عام 2006 ، ومما
أنت هنا
قراءة كتاب اكتشاف جزيرة العرب - خمسة قرون من المغامرة والعلم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ولم يورد دى فارتيما فى كتابه أسماء المواقع المختلفة التى مرت بها القافلة مكتفيًا باسم مزيريب نقطة الانطلاق ، وباسمى مكة والمدينة اللتين كانت القافلة تقصدهما .
ويذكر دى فارتيما أن القافلة بلغت وادى سدوم وعمورة بعد مسير اثنين وعشرين يومًا . ومن الواضح أن ذلك ليس صحيحًا لأن هاتين المدينتين تقعان على شاطئ البحر الميت وقد سبق لـ « دى فارتيما » أن أعلمنا أنه ليس بالرجل الذى يستقى معلوماته من الكتب . ولكنه يورد هنا خليطًا مما يتذكره من التوراة فيقول : إن سكان هاتين البلدتين لابد أن يكونوا قد ارتكبوا ضروبًا من المعاصى ، حتى أُنزل بهم ذلك العقاب ، لأن كل ما يحيط بذلك المكان من أراضٍ قاحل لا ماء فيــه ، ولا ينتج أى شىء . ويضيف إلى ذلك قوله : « لقــد كانوا يعيشـــون على المن ، وبما أنهــم لم يعترفوا بنعمة الله , وبسبب آثامهم الفاحشة ، عاقبهم الله بأعجوبة منه ، ولايزال المرء يرى أطلال هاتين المدينتين » .
إن فيما كتبه دى فارتيما صدى للعقيدة الإسلامية ، فلايزال المسلمون حتى يومنا هذا ، يعتبرون هاتين المدينتين القديمتين المهدمتين ، كمدينتين لعنهما النبى . ولا شك فى أن دى فارتيما قد خلط هذا النوع من الاعتقاد بما تذكره من معاقبة العبرانيين فى الصحراء لتذمرهم من الرب ، ومن معاقبة سدوم وعمورة .
إننا نظن ، إذا أخذنا بعين الاعتبار أيام السير المذكورة ، أن المدينتين الواقعتين فى ثلاثة أخماس المسافة ما بين دمشق والمدينة ، لا يمكن أن تكونا سوى مدائن صالح والعلا . وقد مر بهما دى فارتيما متوهمًا أنهما سدوم وعمورة ، ولم يخطر بباله أن هناك حضارة عريقة فى القدم ، لاتزال فى حاجة إلى من يكتشفها .
ومر بسفح جبل يتراوح محيط دائرته بين عشرة أميال واثنى عشر ميلاً ، فكتب : « هناك يسكن أربعة أو خمسة آلاف يهودى ، وهم عراة تمامًا ، يتراوح طول الواحد منهم بين خمسة وستة أقدام ، أصواتهم شبيهة بأصوات النساء ، لونهم أميل إلى السواد منه إلى السمرة ، لا يأكلون إلا لحم الغنم ، ولا شىء لديهم غيره . وهم مختونون يجهرون بيهوديتهم . وعندما يتمكنون من إلقاء القبض على أحد المسلمين ، يسلخون جلده حيًا » . وأغلب الظن أن هؤلاء اليهود إما أن يكونوا عشيرة خيبر أو عشيرة دغتى ، الذين شهدوا أيامًا عصيبة فى القرن التاسع عشر .
وأخيرًا بلغ دى فارتيما المدينة . وكان يُظن فى أوروبا أن جثمان النبى محمد معلق فى الفضاء فى البيت الحرام بمكة . فكان لـ « فارتيما » الفضل فى تصحيح هذا الاعتقاد الخاطئ ؛ إذ رأى بالفعل قبر النبى فى المدينة .
وصف المسجد بأنه مربع ، ينتصب فيه أربعمائة عمود أبيض من الحجر المحرق ، وذكر أنه رأى فيه ما يقارب الثلاثة آلاف مصباح كلها موقدة دائمًا ، وفى أحد أركانه برج مربع مكسو بالحرير منطَّق بأعراش من النحاس ، يُدخل إليه من باب صغير ، يرى على كل جانب من جانبيه ما يقارب العشرين كتابًا من كتب سيرة النبى ، وأحاديثه ، ووصاياه ، وأعمال عظماء المسلمين المدفونين فيه ومآثرهم ، وهو يضم - فى الحقيقة - قبر النبى والخليفتين أبى بكر وعمر ، ويذكر دى فارتيما أن هذا البرج يضم أيضًا ، قبور على وعثمان وفاطمة بنت النبى . ومن الواضح أنه قد أخطأ من قال له ذلك فيما يختص بالإمام على ، أما فاطمة فلا يعتقد بدفنها هناك إلا الشيعة ، وأما عثمان فقبره فى مدفن آخر من مدافن المدينة .
ويقول دى فارتيما إنه لم يرَ وأصحابه - وهم ذوو عقول راجحة - الأنوار التى يؤكد المسلمون أنهم يرونها تنبعث ليلاً من قبر النبى .
على أن دى فارتيما أحسن - دونما تحيز - وصف الشعائر التى كانت تمارس فى مكة ، وأعجب بالمدينة المقدسة المحاطة بالجبال . وذكر أن الأراضى التى تقع حولها قاحلة ، وأن المواد الغذائية تأتيها من القاهرة عن طريق ميناء جدة الواقع على البحر الأحمر ، ومن بلاد الهند وبلاد فارس ، وسوريا ، وأنه يردها كميات كبيرة من الجواهر والأفاويه من بلاد الهند وبلاد الحبشة ، وكميات كبيرة من منسوجات القطن والكتان والحرير من بلاد البنغال ، وأن تجارة الجواهر ، وأصناف الأنسجة الحريرية والقطنية ، فى هذه المدينة المزدحمة بالناس ازدحامًا لا مثيل له فى أى مكان آخر ، ناشطة نشاطًا لم ير مثله فى حياته ، وأن العطور تباع بالجملة تحت قباب المسجد الكبير، بينما تباع الجواهر بالقرب من بابه .
يُعرف مما كتبه بور كهاردت أن الكعبة ، قدس أقداس مكة ، وقد أعيد بناؤها كليًا سنة 1627 . أما دى فارتيما فقد رآها فى حالتها القديمة . وقد ذكّره المسجد المستدير ، الرائع كل الروعة ، بمدرج الكوليزيه فى روما . وفى فسحة مكشوفة فى وسطه ، برج صغير يقدر كل من جوانبه بما يتراوح بين خمس وست خطوات ، أحيط بنسيج من الحرير الأسود هو الكعبة . ويمكن الدخول إلى الكعبة من باب من الفضة ، يقع أسفله على ارتفاع قامة رجل ، وقد وضع على كل من جانبيه إناء ملىء بالعطر . وترى حلقة ضخمة فى كل ركن من أركان البرج .
ويروى لنا رحالتنا كيف أن الجميع ، قبل بزوغ شمس الثالث والعشرين من شهر أيار (مايو) أخذوا يطوفون حول الكعبة مقبلين زواياها ، وبعد الفراغ من ذلك ، جعلوا يقتربون من بئر « زمزم » التى تقع على بعد اثنتى عشرة خطوة منها ، وهم يسيرون القهقرى . وفيما يستغفر المؤمن الله بصــــوت مرتفع يلقى على رأســـه ثلاثة أسطل من الماء ليبتـــل حتى أخمص قدميــــه ، لا يستثنى من ذلك أحد ولو كان مرتديًا ثوبًا من ذهب ، لأن ماء هذه البئر يعد مطهرًا للخطايا ، ويتوجه الجمهور بعد ذلك إلى أسفل جبل « منى » لتقديم الأضاحى ، فيقوم كل مؤمن بنحر عدد من الخراف يتراوح بين اثنين وخمسة ، ويحتفظ بشىء من لحمها لاستعماله الشخصى ، ويوزع ما تبقى على الفقراء ، والفقراء كثيرون ، يتنازعون لا اللحم فحسب ، بل قشور الخيار التى تلقى إليهم على الرمل .
وفى اليوم التالى بعد أن يقوم الحاج بإعلان التوبة ، يسرع الجميع بالعودة إلى البلدة . ويلاقون فى منتصف الطريق جدارًا كوِّمت فى أسفله كمية من الحجارة الصغيرة ، على كل واحد أن يقوم برمى إحداها كأنه يرجم بها عدوًا غير منظور .
ويشرح دى فارتيما هذه الشعيرة الدينية فيقول إنها رمز لطاعة إسحق ، ودليل على الرغبة فى الاقتداء به . فقد جاء فى التعاليم الإسلامية ، أن الشيطان حاول إقناع إسحق بعد اللحاق بأبيه إبراهيم العازم على التضحية به ، فطرده إسحق مرتين ، وفى المرة الثالثة رجمه بالحجارة لكى تتم مشيئة الله .
ويذكر دى فارتيما أيضًا أن الحمام يغزو مكة ويحدث أضرارًا جسيمة ، ولكن ما من أحد يقدم على قتل حمامة واحدة ، لأنهم يعتقدون أنها تتسلسل من الحمامة « التى كانت تكلم النبى محمدًا بوصفها الروح القدس » .
ويذكر لنا أخيرًا ، أنه رأى فى أحد جوانب المسجد وحيدى قرن حيين كانا قد أُهديا إلى سلطان مكة . وتبدو هذه الرواية من قبيل الخرافات ، وأنه لا أساس لها من الصحة ، ولكنها ليست كذلك لأن من المؤكد أن وحيد القرن موجود فى غابات بلاد الحبشة الكثيفة .
كانت أوروبا مزمعة ، إذن ، منذ ذلك الحين فصاعدًا ، أن تعرف شيئًا ، ولو مختصرًا ، عن كيفية تأدية فريضة الحج الشاقة ، الحج الذى هو من أركان الدين الإسلامى ، ويجعل من المؤمن مسلمًا حقيقيًا جديرًا بالجنة .
ومما يثير الإعجاب موضوعية الرحالة ، الذى يلاحظ للمرة الأولى شعائر مجهولة ، والذى يحسن السؤال ، وفهم المعنى الروحى لمناسك الحج .