كتاب " المسألة الكردية في العراق " ، تأليف صلاح سعد الله ، والذي صدر عن مكتبة مدبولي عام 2006 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب المسألة الكردية في العراق
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

المسألة الكردية في العراق
يمكن أن نشير إلى دول أخرى متعددة القوميات والأقوام والأعراق تكمن ضمن حدودها الدولية المشكلة القومية مثل سريلانكا وتانزانيا وقبرص والهند والسودان والجزائر وأثيوبيا وتركيا وإيران . والاتحاد السوفييتى السابق مثال آخر على المشكلة القومية الكامنة ، والحقيقة فإن هذه المشكلة كانت من جملة العوامل التى أدت إلى انهيار الدولة السوفييتية بسبب مركزيتها المفرطة : واستبدالها بدول مستقلة قومية ، وبرغم أن معظم القوميات السوفييتية استفادت ثقافيًا - اجتماعيًا ، واقتصاديًا أيضًا ، من الدولة السوفييتية التى شكلت أنموذجًا متقدمًا فى حل المسألة القومية فإن هذه القوميات فضلت أن تقيم دولها القومية المستقلة عملاً بحرية حق تقرير المصير . كان الاتحاد طوعيًا نظريًا لكنه لم يكن كذلك ، عمليًا . لقد كان اتحادًا قوميًا قسريًا يخفى مشكلة كامنة فى رحم الدولة ، وقد نمت المشكلة مع ميلاد الدولة ونموها لسبب بسيط هو أن الدولة ألحقت بكيانها قوميات دون اختيارها وحكمتها أحيانًا ضد رغبتها ، وهكذا بقيت المشكلة كامنة دون حل ديمقراطى حقيقى لأن القوميات لم تنتظم بطريقة ديمقراطية حرة طوعية فى الاتحاد ولم تختر العيش معًا ضمن إطار دولة واحدة . وعلى العكس فإن الدولة التى تبدى قومياتها رغبتها الحرة فى العيش معًا ضمن إطارها السياسى لا توجد مشكلة قومية فيها ، كما هو الحال فى سويسرا . فهذه الدولة تتكون من اتحاد طوعى حر بين ثلاث قوميات هى الألمانية والفرنسية والإيطالية ، وعلى الرغم تعرض الدولة السويسرية إلى أشد الضغوط خاصة بعد استيلاء الفاشيين الإيطاليين والنازيين الألمان على الحكم فى إيطاليا وألمانيا المجاورتين فإنها حافظت على وحدتها الوطنية وسيادتها الإقليمية وتمسكت قومياتها باتحادها الاختيارى . لكن المشكلة ، وما يزيد فى الطين بلة ، هى أن أغلبية الدول متعددة القوميات ليست من نوع الارتباط الحر المتكافئ بل هى من نوع الزواج القسرى الإكراهى ! وهذا الزواج ، كما هو معروف شرعًا باطل من أساسه ! إن ما يبنى على الباطل باطل . إنه فاقد للاستقرار والثبات لأنه فاقد للوفاق ، ومعرض فى النهاية للطلاق ! وقد يكون الطلاق، وهو أبغض الحلال ، وديًا وسلميًا ، وفى هذا شىء من العزاء ( كما حدث إلى حد ما فى انفصال فنلنده عن روسيا عام 1917 وبقية الجمهوريات عند انهيار الاتحاد السوفييتى ) ، لكنه قد يكون طلاقًا دمويًا عنيفًا كما يحدث فى يوغوسلافيا ، بين الصرب والسلوفينيين والكرواتيين والبوسنة والهرسك والألبان الكوسوفيين وغيرهم من القوميات .
فى نيسان 1989 زرت يوغوسلافيا وكانت مدينة « ساراييفو » الجميلة من بين المدن التى شاهدتها . من المعالم السياحية البارزة فى المدينة الموقع « الأثرى » الذى وقف فيه الطالب القومى الصربى « كافريلو برنسب » وأطلق منه النار على الدوق النمساوى الأعظم « فرانسيس فرديناند » وزوجته دوقة « هوهنبرك » وأرداهما قتيلين ، فانطلق بذلك الاغتيال سيل جارف من ردود الفعل الدولية بلغ أوجه فى اندلاع الحرب العالمية الأولى . كانت إطلاقات « برنسب » الشرارة التى فجرت برميل البارود فى البلقان وأشعلت حريقًا عام 1914 امتد لهيبه المدمر لأعوام أربعة إلى سائر أرجاء الدنيا وشكل فى تاريخ البشرية إحدى الكوارث الكبرى .
فى حزيران 1991 بدأ الجيش الاتحادى اليوغوسلافى عمليات عسكرية فى حرب محدودة للقضاء على الاستقلال الذى أعلنته جمهوريتا سلوفينيا وكرواتيا بعد أن قررتا الانفصال عن الدولة الاتحادية اليوغوسلافية عملا بمبدأ حق تقرير ( تبعتهما جمهوريتا البوسنة والهرسك ومقدونيا ) . وفى نهاية آذار 1999 بدأت حرب محدودة أخرى بمهاجمة قوات حلف الأطلسى للقوات الصربية لإرغام يوغوسلافيا على القبول بالحل الأطلسى للمشكلة القومية الألبانية فى كوسوفو ، وبرغم أن الظروف الدولية قد تبدلت بين عامى 1914 و1999 وأن نشوب حرب عالمية أخرى بسبب المشكلة البلقانية مستبعد باعتبار أن التاريخ لا يعيد نفسه لكن سبب الحرب المحدودة فى البلقان والسبب المباشر للحرب العالمية الأولى التى انطلقت من البلقان أيضًا ليس إلا المشكلة القومية الكامنة فى كيان الدول التى أقيمت هناك قبل وبعد الحرب العالمية الأولى ، ثم عدلت حدودها جزئيًا وثبتت « نهائيًا » بعد الحرب العالمية الثانية . فهذه الدول متعددة القوميات وقد أقيمت دون أن يكون لهذه القوميات رأى حاسم فى إقامتها ودون أن تختار طوعيًا الانضمام إليها أو الانخراط فى نظامها أو الموافقة على حدودها ، إنما قرر آخرون مصيرها فى ضوء المخططات والمصالح والتوازنات الأجنبية أو الدولية ولهذا ليس من المستغرب أن تبدى قومية رغبتها ، حين سنوح الفرصة لها ، فى فك ارتباطها القسرى بدولة أو قومية أخرى ، وإقامة دولتها المستقلة ، انطلاقًا من حقها الطبيعى فى تقرير مصيرها بنفسها واختيار شكل كيانها ونظامها . وهنا تكمن خطورة الأمر ففى العالم دول عديدة متعددة القوميات تحضن بذرة المشكلة وقد تنمو البذرة وتشتد المشكلة وتتحول إلى صراع جوهرى بين الدولة والقومية أو القوميات ، وحتى الدول ، وتنتهى باستخدام العنف ونشر الدمار وإزهاق الأرواح . وما إن تحل مشكلة قومية هنا ، بعد جهد جهيد ، حتى تبرز مشكلة قومية أخرى هناك ، فعلى الرغم من المكاسب المحتملة التى قد تحصل عليها قومية فى الدولة الكبيرة متعددة القوميات ، فإنها قد ترى أن إقامة كيان قومى مستقل أفضل لها من كيان مشترك متعدد القوميات حتى إذا كان لهذا الكيان الكبير التعددى مزاياه ( فى الدفاع مثلاً ) ، ولما كان المهم فى مبدأ حق تقرير المصير هو حرية ممارسته ، ولما كانت ممارسة هذا الحق متوقعة على نطاق أوسع فى المستقبل بسبب زحف الديمقراطية ونمو الطبقة الوسطى لذلك من المرجح أن تتكرر هذه المشكلة وقد تتخذ أبعادًا تهدد فيها الأمن الإقليمى والسلم العالمى وخاصة فى غياب آلية مناسبة لحلها . إنها مشكلة عويصة حقًا تتطلب المعالجة الجدية قبل استفحالها والاكتواء بنارها . ما هو الحل الصائب لمعالجة المشكلة ؟ الحل الصائب للمشكلة يكمن فى تطبيق الديمقراطية لأن غياب الديمقراطية هو فى الحقيقة أصل المشكلة . يكمن الحل فى حرية كل قومية فى ممارسة حقها فى تقرير مصيرها بنفسها سواء فى إقامة دولة أحادية القومية وحدها ، أو مشاركة قومية أخرى فى دولة ثنائية القومية أو إنشاء دولة متعددة القومية مع قوميات أخرى على أن تكون ممارسة هذا الحق حرة فى كل الأحوال .