كتاب "العقد الاجتماعي" للفيلسوف والمفكر السويسري جان جاك روسو، والذي ترجمه للعربية الكاتب والباحث والمفكر العربي عادل زعيتر؛ ويقول زعيتر في مقدمة كتابه المترجم:
قراءة كتاب العقد الاجتماعي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
العقد الاجتماعي
ويغلِب الغموض على تاريخ تلك المغامرات التي حدّث عنها في «اعترافاته»، ولكنّها وقعت في ثلاث سنين كما يظهر، فلمّا حلّت سنة 1731 ذهب إلى مدينة بودري فوجد في أحد فنادقها قسيسًا يحدّث بلغةٍ لا يعرفها غيرُ روسّو، فاتّخذ روسّو ترجمانًا له، وصار يجوب معه بلادًا كثيرة حتّى انتهيا إلى سولور، فأعجب السفير الفرنسي فيها بروسّو وجعله موضع رعايته، ويرسله إلى باريس مع ضابط صغير، ويعتريه سأم من باريس ومظاهرها، ويَعلَم نبأ عودة مدام دوفارنز إلى أنسي ويَرجع إليها.
بلغ ليون خاويَ الوِفاض، فأخذ ينسخ قطعًا من الموسيقا، وظلّ يصنع هذا أيامًا حتّى تلقّى كتابًا من مدام دوفارنز تدعوه فيه إلى مدينة شانبري، فلبّى الدعوة غير آسفٍ على ليون لبُعدها من الحياة الريفية، وقد بقي محلّ رعاية مدام دوفارنز، وقضى حياة هدوء عندها سنين كثيرة سواء أفي شانْبِري أم في شارْمِت، وفي هاتين المدينتين أمعن روسّو في دراسة شتّى العلوم فكان لذلك أبلغ الأثر في كتابة رسائله وكُتُبه القادمة.
وفي سنة 1738 يُصاب روسّو بمرض شديد، ويُرسل إلى كليّة مونبليه للمعالجة، ولم تُحسِن مدام دوفارنز استقباله بعد شفائه لاشتعال قلبها بغرام حبيب آخر، وما بذله روسّو من جهودٍ كثيرة لإقصاء هذا المنافس كان على غير جدوَى.
وفي سنة 1740 سافر إلى ليون حيث مَكث عامًا، وحيث اتُّخِذ مربّيًا لأبناء حاكم ليون الأكبر دُومابْلي، ثم عاد إلى شارْمِت عن شوق إلى مدام دوفارنز، فكان قبولها له حسنًا على غير ما ينتظر، ولكن مع بقاء الحبيب المنافس محتلًّا للمكان الأول من فؤادها، فعزم على السفر إلى باريس.
ذهب إلى باريس سنة 1741 بالغًا التاسعة والعشرين من سنيه، ونزل بفندق سان كِنتان الوضيع، وقد كان ذا مزاعم في الموسيقا، وقد وجد في كسب عيشه من هذا الفنّ، فعرض في سنة 1742 على مجمع العلوم منهاجه فيها فلم يجده هذا المجمع جديدًا ولا نافعًا، فردّه، غير أنّ النجاح إذا لم يكن حليفه في هذا الحقل كانت له تعزيه بما اتفق له من اتصال برجال العلم والأدب والفلسفة في باريس وانتفاعه بمعارفهم.
وفي ذلك الفندق وقع نظر روسّو على فتاة ريفية اسمها تريز لُوفاسُّور بالغة من العمر اثنتين وعشرين سنة، وكانت هذه الفتاة تعمل خادمة فيه، وكانت من أهل أورْلِيان، وقد رقّ روسّو لها لما رأى من هُزوء الناس بها لبساطتها وبَلَهها، فاتخذها رفيقة له عن حبّ وعاطفة، وغادرا الفندق، وقد دامت حياتهما معًا ستًّا وعشرين سنة.
والحق أنّ تريز كانت على جانب عظيم من الغباوة، وكانت لا تُحسن شيئًا من القراءة والكتابة، وكانت كثيرة الشغب والنزاع، ومع ذلك كان روسّو كثير الإعجاب بها ناظرًا إليها بعين الحبّ راضيًا بجمالها وحُسن صوتها، متجاوزًا عن عيوبها وفقرها مُغضِيًا عمّا يفصله عنها من عبقرية ونبوغ، وقد دامت حاله هذه نحوها اثنتي عشرة سنة.
وتغيّر حبّ تريز له مع الزمن، وصارت لا تُبالى به ولا تفكّر فيه، وطلبت منه الفراق قبل موته بتسع سنين، فقد وَلَدت له خمسة أولاد، وسلَّمهم إلى ملجأ اللُّقطاء على مضض من الأمّ، وذلك من غير أن يترك ما يدلّ على أصلهم في المستقبل، ويعتذر عن ذلك بفقره واضطراره إلى كسب عيشه بكدّه، وإن كان يهدف في الحقيقة إلى الحياة الحرّة الطليقة التي لا تَشغَل باله بولد، وفي ذلك من الابتعاد عن الإنسانية والمروءة وحسّ الواجب ما لا يخفى، وقد أراد روسّو أن يكفّر عن خطيئته هذه التي لا تغتفر بوضعه كتاب «إميل» العظيم الشأن فيما بعد، ومع ذلك فقد وُجِدَ مَنْ شَكّ في صحّة حكاية أطفاله الخمسة تلك، ذاهبًا إلى أنّها دُسّت في«اعترافاته» التي نُشِرت بعد موته.
وفي اعترافاته تلك يذكر روسّو أنّه صرّح رسميًّا بزواجه بتريز بعد معاشرته إيّاها ربع قرن، وقد صرفها بذلك عن طلبها الفراق، فظلّت رفيقة له إلى أن مات، وإن لازمها الغمّ والألم حزنًا على أطفالها أولئك.
قلنا إنّ روسّو ذهب إلى باريس، وفي هذه المدينة قضى حياة عسيرة ككُتّاب ذلك العصر، فقد كان يتعيّش من استنساخ القطع الموسيقية فيها مع قبوله في رِدَاه المجتمع الراقي، ثم ذهب إلى البندقية سكرتيرًا لسفير فرنسة دومونْتيغ.
ويعود روسّو إلى باريس حيث أصبح مستخدمًا لدى الملتزم العام دوبان سنة 1748، وفي ذلك الحين يُقدّم إلى مدام ديبيناي، ويرتبط بأواصر الصداقة في دِيدِرو الذي كان من رجال الشعب أيضًا فيقضي حياة شاقّة مثله في باريس.
وبينا كان ذلك حال روسّو في سنة 1749، حين كان ابنًا للسابعة والثلاثين، نشرت أكاديمية ديجون إعلان مسابقة في موضوع: «هل أدّى تقدّم العلوم والفنون إلى إفساد الأخلاق أو إلى إصلاحها؟»، وكان صديقه ديدرو في سجن فِنْسِن وقتئذٍ بسبب «رسالته عن العُمي»، فاطّلع على ذلك الإعلان حين ذهابه إلى زيارته، فعنّ له وهو في الطريق أن يشترك في المسابقة، ويُكلّم ديدرو في الأمر فيشير عليه بالتزام جانب إفساد العلوم والفنون للأخلاق لما في هذا من طرافة وتوجيه نظر، ولِمَا ينطوي التزام جانب إصلاحهما للأخلاق من ابتذال.