كتاب " حمام القرماني " ، تأليف نجوى الزهار ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب حمام القرماني
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
حمام القرماني
فهذه الثمار النضرة المتوهجة لها أيضا جمال الثمار ذاته، فتجعّدت قشرتها الخارجية وجفت ينابيع مياهها الداخلية، أم أنها هي التي أوحت إليه بفكرة عدم قطفها لكي نستطيع نحن من عشنا في هذا البيت أن نرى وجه الأجداد ونسمع حديث الأجداد؟ شاهدوها نشاهدها تشاهدنا. أزهار الياسمين، أشجار البرتقال والليمون تعرف جزءاً من حقيقتنا. وأنا الطفلة الأصغر سناً لوالدتي المطلقة. لعلي كنت أتعلم من شجرات الياسمين،البرتقال، الأدراج المتصلة والآيات القرآنية. وإلا فما معنى أن أصر على وجوب زواج أمي لكي تستقر، وأنا لم أتجاوز الرابعة من عمري؟. فالانفصال السلبي لم يكن موجوداً في عالمي. فالأدراج التي كانت تفصل في بيت جدتي كانت أيضاً وسيلة اتصال. وأمي يا أمي وإن ذهبت للزواج، فأنا أعلم تماماً أن الأدراج بيننا، تلك الأدراج كانت معي عندما ذهبت للزوج طالبة للطلاق وليس الانفصال. وكم حاولت أن أشرح له أنني بطلاقي لا أنفصل انفصالاً، لا أبتعد بعيداً. فقط أحدد طبيعة العلاقة بيننا. فالأدراج بيننا دائماً. فتلك شجرة اللبلاب يا أيها الزوج، تلك الشجرة كانت جذورها في ركن من أركان أرض الديار، ولكنها كانت كل يوم تفاجئنا بامتدادات، بتسلقات، وكم ابتسمنا لتحيتها الصباحية غير المتوقعة عبر الإطلالات من ثنايا النوافذ البعيدة كل البعد عن جذورها من دون أن تفقد جزءاً حقيقياً منها.
شجرة اللبلاب فهمت تماماً أنها لن تقوى على منع تلك الامتدادات، وتلك الامتدادات عرفت أيضاً أن سر وجودها يكمن في تلك الجذور البعيدة القريبة منها. وأنا أيضاً أريد جذوري وأريد أيضاً امتداداتي. ولسوف أطل عليك كل صباح، فأطفالنا هم الامتدادات التي لا تنتهي براعمها. هم التسلقات الثابتة على قلبك وقلبي. لم يفهمني..... لم أفهمه.... عدم الفهم نعيشه جميعاً، نمارسه أيضاً جميعاً. وما الاعتذار الذي نبديه لبعضنا البعض إلا فهم متأخر مع أن الكون بكل ما فيه نتقاسمه معاً. ولكن دائماً الأشياء تعاود تكرار الأخطاء نفسها، الاعتذارات، الفهم المتأخر. فنحن نصر على أن عطاء الآخرين، ربيعهم، جمال ثمارهم، يجب أن يأتي في اللحظة التي نريدها نحن. لا نريد أن نعرف شيئاً عن عمق شتائهم، عن حاجتهم لحطبنا لنارنا، إلى أن يأتي يوم ما نصادف فيه شتاء يشبه شتاءهم، ورياحاً تهتز لها أشجارنا كما اهتزت أشجارهم. في تلك اللحظة نحاول الفهم. فالدموع يجب أن نتذوقها، لنتأكد من أن دموع الآخرين لها أيضاً الملوحة نفسها. وأنا كيف لي أن أفهم ذاك الرجل الذي طالما شاهدته يجوب الشوارع حاملاً كيساً على كتفيه في الساحة الخالية المقابلة لمنزلي، يغتسل بما تبقى من مياه متجمعة بفعل المطر. في يديه علبة فارغة يستعملها كمرآة، كيف لي أن أفهم، وكيف لي أن لا أكون متأكدة أنه بحاجة لمساعدتي؟ في هذه اللحظة تركت ما بيدي، وذهبت إليه مسرعة مع مخاوف بأن لا أقدر على اللحاق به، وكان لا يزال في مكانه يمشط شعراً طويلاً مكتسياً بلون الحناء. وبعد أن حييته، قلت له بصوت خافت: أرجوك أن تأخذ هذا. وقبل أن أكمل كلامي ويدي تحاول أن تمتد إليه أكثر، رمقني بتلك النظرة الحادة التي عرفت طريقها إلى ذكرياتي وذاكرتي قائلاً: لماذا لماذا؟ قلت بصوت أكثر انخفاضاً مما سبق: هذه نقود إنك بحاجتها! فأعاد القول: لماذا؟ ومن قال لك إنني بحاجة إلى هذه النقود في ذاك الزمن؟. وقبل أن يهتز عالمي الداخلي بفعل ظروف باعدت بيني وبين سهولة العيش، لم أستطع أن أفهمه، بل على الأغلب أسأت فهمه. فقد كان يمارس عمله بالبحث في النفايات عما يستطيع العيش منه. لا يريد أن يكون متسولاً. أما أنا فلم أر غير منظره الخارجي، ولم أنتظر أن يسأل يد المساعدة، كان قراري تصرفي.... ولكني اليوم عندما أراه وقد أصبح جسده يقارب الأرض انحناء، وعلى رأسه بعض من شعيرات لا تزال تكتسي بلون الحناء، حاملاً كيساً يزداد حجماً واتساعاً، أرى سياج الكبرياء يحيط به ويعطيه أوضح مرآة يرى بها روحه المليئة بالقناعة والرضا، عندها أقول له معذرة يا صديقي، فلقد فهمت معنى الاغتسال بمياه المطر.
هذا الذي لا أعرف حقيقته، بدايته. لا أبحث عنه اليوم في ثنايا الذاكرة؛ فالأحداث المليئة بالود، الوجوه، أشجار الليمون، البرتقال، الياسمين، المياه المتدفقة، الصباحات، المساءات. الأشياء كلها متواجدة في ربيعها صيفها شتائها خريفها. فعندما نجوب الشوارع مشياً، ونحن البعيدين كل البعد عمّا اصطلح على تسميته الحدود الجغرافية من ذاك البيت الدمشقي «سوق ساروجة»[1].... الذي امتدت إليه يد التنظيم السلبي لتشيد على أرض دياره لوحاته مياهه أحاديثه ضحكاته همساته مساءاته وصباحاته.... شارعاً يتيماً بلا أم بلا أب. ذاك الشارع ربما تحنو عليه في بعض الأحيان جذور أشجار الياسمين ولكن! جذور أزهار الياسمين في أي مكان وأي زمان تقول لي بلغة لا أستطيع أن أفك حروفها لأكتبها لكم؟... ولكن المعاني تعرفها وأعرفها أنا.... قالت لي يوماً وأنا ألامس شجرة ياسمين في منعطف ما.... إنّ قاماتي وإن امتدت إلى داخل الأرض، فلا نزال على حالنا نصحو معاً، نفرد أزهارنا على أرض تلك الديار المتوهجة بالألوان ذاتها، الأبيض والأصفر والليلكي..... على تلك الأرض غير المرئية إلا العيون التي تعرف تماماً كيف لا تنتهي الأشياء، هي فقط تغير أبوابها لحين وادوارها لحين..... ولكن الأدراج... هي معنا، ليكون درب العودة درب البداية مضاء بهذا الذي لا أعرف حقيقة بدايته. فعندما تمتد يدي لتمشط شعري، تمتد يد خالتي عبر ما اصطلح على تسميته المسافات لتساعدني قليلا،ً لتقول لي: لا يا صغيرتي، فهذه التسريحة أجمل على وجهك، دعي جبينك يرى الصباح والمساء أيضاً. لا تدعي الشعر يحجب عنه نور الشمس. في تلك اللحظة أرى شعري القصير وقد تطاول ليعود إلى تلك الأرض الذي كانت فيه ضفائري الطويلة الحمراء تنتقل بيني وبينهم. هي لي هي لهم. هي جزء من التسلقات، من الأدراج التي بيننا.
تصحو خالتي يوماً، تمسك الأمشاط، الدبابيس، كأساً من الماء. أفرح لندائها، تمسك ضفائري، تفردها تمشطها. لماذا ذهبت رائحة الغار[2] من شعرك؟ لعل على جدتك الحمام المقبل أن تزيد كمية الطرابة[3] المعطرة...... تهمس لي ألا أتزين. لقد أحضرت اليوم مشط جهاز جدتك الموشح بالأحجار الملونة. أطلب منها أن أمسكه قليلاً، لا ترفض. أمسكه، لا بل هو الذي يمسك بيدي». (من كتاب: ابتسامة بيضاء لنجوى الزهار).