كتاب " ليل تشيلي " ، تأليف روبرتو بولانيو ترجمه إلى العربية عبد السلام باشا ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب ليل تشيلي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ليل تشيلي
التناقض والازدواج بشكل ما يمثلان أساس الرواية، حيث يوجد الشيء ونقيضه دائما. بمعنى أدق يتعايش الشيء ونقيضه، لكن أحدهما على حساب الآخر دائما. أحدهما أكثر من الآخر. القس هو نفسه الشاعر والناقد الأدبي. القس «طاهر طهراً لا شائبة فيه»، لكن الشاعر والناقد الأدبي «طهره بين بين». القس لا بد أن يحمل الرحمة في قلبه، لكنه كشاعر وناقد يتحدّث عن شخصيات مهمة تنتظره على العشاء، ولا يكبح تقزّزه ورؤيته للفلاحين (الذين يتماهون مع العبودية) كـشخصيات قبيحة لا معنى لكلماتها أو تعبيرات وجوهها. هذه الأمثلة يوجد العديد منها داخل الرواية. لكننا سنركز على بعض الأمثلة فقط عبر شخصيات أخرى وعلاقاتها بالقس أوروتيا.
أهم هذه الشخصيات هما السيدين «بعر وهرك». بعكس ترتيب الحروف يمكن قراءة الاسمين «رعب» و «كره». إنها حيلة لغوية من المؤلف للتعبير عن شخصيتين تمثلان نقطة تحول في حياة الشخصية الرئيسية كلما واجه أزمة أو مشكلة روحية أو وجودية. كأنه يجب أن يتعايش مع هذين الشعورين: الخوف والكره. هما شريكان، يعملان لحساب شخص غير معروف. يتميزان بالكفاءة لكنهما يفتقدان للّباقة. أحدهما مهادن (بعر) والآخر قاس مهاجم دائما (هرك). هذان الشخصان المنفّران يمثلان العصا والجزرة، يظهران في حياة القس أوروتيا في اللحظات الحرجة، كأن ظهورهما معا يمثل الحل النهائي، الحل الذي يجمع بين النقائض، لكي يستطيع البطل/البطل الضد، وبالتبعية البلد، الاستمرار في الحياة. يقدمان له حلّا في صورة عمل مجز (وهو ما تفعله الأنظمة الشمولية والديكتاتورية): الاستقرار والازدهار الاقتصادي مقابل الحرية الشخصية. لكنه لا يرفض هذه الحلول. بالعكس يرحّب بها ويرى أنها طوق النجاة في لحظات الضعف والانهيار.
حتى صورة الديكتاتور بينوشيه في الرواية لا تخلو من هذا الازدواج: رجل عسكري مهيب قوي، لكنه يهتم بقراءة الكتب، بل وكتابتها. رغم أن مؤلفاته (المذكورة في الرواية) تنحصر في العلوم العسكرية، إلا أنه بالمقارنة بالرؤساء المنتَخَبين ديمقراطيا قبل قيامه بالانقلاب العسكري، يعتبر شخصا مثقفا، محبا للقراءة والكتابة، حسب وجهة نظر القس بالطبع ( وهو أمر قد يخفي نوعا من السخرية والتناقض).
وهو نفس القس/الناقد الأدبي، الذي يهرب من الواقع المرير (الذي يمثله بالنسبة له فوز ألليندي بالرئاسة) إلى قراءة كتّاب الإغريق القدماء. هروب القس وانعزاله عن مجتمع يبشِّر بقيم جديدة كالعدل والمساواة والحرية. وكذلك هروب المثقف إلى كتابات الإغريق القديمة التي تعتبر قيمة فكرية وثقافية عابرة للعصور والأيدلوجيات. ومن جانب آخر القراءات التي يذكرها تتطور بشكل متواز مع تطورات الواقع المأزوم. إنها كتب قديمة تناقش أفكار التوحيد والأخلاق والفضيلة والحرب والقوة والعنف، لكنها تنتهي قبل ميلاد المسيح، كما يتوقف هو عن قراءة الإغريق مع وقوع الانقلاب العسكري. نهاية ألليندي تجعل القس يشعر بالهدوء والأمان. إنها عودة للمجتمع القديم نفسه، وإلى القيم القديمة. تلك القيم القديمة التي يعرفها القس ويعرفها الناقد الأدبي الذي يكتب الشعر. وباحترام هذه القيم التراتبية الأوليجاركية أمكنه أن يجد مكانا في عالم الثقافة والأدب. باللجوء إلى ناقد أدبي كبير، إقطاعي، في بلد غارق في الجهل. بلد (همجي لا يعرف أبناءه القراءة والكتابة). ثقافة الإقطاع وتقاليده تنسحب على الأدب والثقافة أيضا، حيث يتوقع (أو يتمنّى) القس أوروتيا أن يقوم الناقد الكبير فارويل بدعوة شاعر ذا خلفية دينية ومؤرخ شهير وكاتب نثريات رقيق الأسلوب. يحدث هذا في بلد يشهد في تلك الحقبة، حقبة الخمسينات ميلاد جيل أدبي وفني جديد ثائر على التقاليد والقيم الفنية والاجتماعية السابقة. لكن القسّ، الشاعر والناقد الأدبي، يختار أو يلجأ إلى الطريق الذي يتفق مع شخصيته: تيار تقليدي حماته أو علاماته أصحاب إنتاج محافظ وتقليدي.
تلك الاختيارات نفسها التي تعتبر إشارات لمعايير العالم الذي يرغب القس أوروتيا في دخوله تحمل قدرا كبيرا من السخرية والتهكم من الشخصيات واختياراتها. رغم أنه يفعل هذا بشكل غير مباشر. فلنقل إنه مستوى آخر من القراءة (يفترض أو يتطلب معرفة من القارئ بالخلفية الاجتماعية والسياسية لتشيلي). ولأن هذه الإشارات والتلميحات مغلّفة دائما بخطاب جاد وتوصيفات توحي بالاحترام والتوقير من المؤلف على لسان القس أوروتيا، يصبح من الصعوبة اقتناص هذه السخرية التي تصل إلى حد الاستهزاء. رغم أن بعض الأمثلة تثير تساؤلات بديهية حول الاتساق مثل الرحلة الطويلة التي يقوم بها القس أوروتيا إلى أوربا بغرض معرفة ودراسة التقنيات المتقدمة لحماية الآثار والكنائس في القارة العجوز ، حيث يقال إنه تم الوصول لحلول نهائية للقضاء على تدهور بيوت العبادة في مقابل الجهل المطلق في تشيلي، وفي أمريكا الجنوبية. لكن هذه الرحلة تسفر عن مشاهدة عدة صقور في بلدان أوربية مختلفة تقوم بقنص الحمام وبهذا يختفي الحمام وفضلاته ذات الأثر المدمر على الكنائس الأثرية. إنه لا يتهكم على هذا. بل يقوم بصياغة تقرير مركّزاً على هذه التقنية. وعندما يأتي ذكر إسبانيا نجد أنهم لا يهتمون حتى باستخدام الوسيلة المتبعة في بلدان أوربية أخرى. الشيء الوحيد الذي يذكره القس بالتقدير في إسبانيا هو (الأوبوس داي ونشاطهم).
يقول بورخيس «ماذا قدم أبناء إقليم الباسك للعالم أكثر من حلب البقر وقتل الجنود». هذه الكلمات تبدو النقيض، أو المعادل الساخر المعبر عن الاحتقار لخيارات الأب أوروتيا لاكروا. من المعروف أن تشيلي تعتبر من أكثر البلدان التي شهدت هجرات من أبناء إقليم الباسك الأسباني، لكن لم يُعرف عنهم على الإطلاق أي اهتمامات أو انجازات ثقافية أو فكرية. في مقابل هذه الحقيقة نجد أن اشارات القس أوروتيا (لقب عائلة باسكي أيضا) إلى أكثر من شخصية فكرية متخيلة ذات ألقاب باسكية أيضا:
[(كان لديه دائمًا ضيوفٌ من الكتاب في مزرعته). ربّما الشاعر «اوريبارينا»، وهو مؤلِّف قصائد دينية رائعة. ربّما سأجد «مونتويا ايثاجيري»، كاتب صاحب أسلوب رقيق في النثريات القصيرة. وربّما «بالدوميرو ليثاميندي ايراثوريث» مؤرّخ شهير من الثقات]
الاسماء الثلاثة المذكورة مخترَعة، يضمّنها المؤلف إشارات الى شخصيات حقيقية مثل نيرودا أو شخصيات حقيقية مشار لها باسم آخر مثل «فارويل». وهذه الأسماء الثلاثة من أصل باسكي. كأن المؤلف يتهكم على شخصيته الرئيسية وأصلها الباسكي أيضا.
رغم أن السرد في هذه الرواية على لسان البطل يبدو مقنعا، بكلماته الجادة المحملة أحيانا بالحيرة والتردد، إلا أنها تستحق قراءة ثانية تقف على التفاصيل. وقد حاولنا في الهوامش (التي تم اختصارها لكون العمل رواية، وليس مقالات أو كتاب في التاريخ) إلقاء الضوء على الحوادث والقراءات ذات الصلة بالحالة النفسية والعقلية للشخصية الرئيسية.
تبقى الاشارة إلى أن معظم الشخصيات الفاعلة في الرواية هي من اختراع المؤلف، باستثناء نيرودا وبيونشيه وألليندي بالطبع. وبعض الشخصيات الأخرى هي ظل لشخصيات حقيقية مثل الناقد الأدبي، والكاتبة الناشئة وزوجها الأمريكي اللذان كانا يعملان مع المخابرات التشيلية والأمريكية. بالإضافة إلى الشخصية الرئيسية، سباستيان أوروتيا لاكروا، المستوحاة من شخصية حقيقية، هي القس «خوسيه ميجل ايبانيث لانجوليس»، الذي كان عضوًا في الأوبوس داي. وكان يكتب تحت اسم «إجناثيو بالينتي». وقد قام بالكتابة الأسبوعية خلفا لـ Alone في جريدة (ميركوريو) بين عامَي 1966 و1994. وكان «بالينتي» يعتبر أهم ناقد أدبي خلال ديكتاتورية بينوشيه. وقد قام بالفعل بتدريس الماركسية لأعضاء المجلس العسكري بعد الإنقلاب على سلفادور ألليندي.
إن تقديم هذه الرواية للقارىء العربي فرصة للتعرّف إلى كاتب كبير تُرجمت وتُترجم أعماله إلى معظم لغات العالم ويحتل مكانة بارزة في عالم الرواية.