أنت هنا

قراءة كتاب بوركيني

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
بوركيني

بوركيني

هل الحجاب هو تحد أم انقياد؟ كيف يمكن لامرأة محجبة أن تنظر إلى جسدها؟ كيف ترى الجسد الآخر؟ كيف تتعاطى مع مجتمع منفتح تعيش فيه؟

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 2

أرتدي قميصا زهري اللون بلا أكمام، وسروالا من الجينـز الغامق. أفرد شعري الذي يضيع لونه بين البنيّ والأحمر، وهو لون الخرّوب أو الخرنوب كما كانت تقول لي جدتي التي كانت تعشق الخرّوب الطازج، عصيراً ودبساً. ومنها أخذت تسمية هذا اللون الذي عشقته وصرت أستخدمه كلونٍ أساسي في لوحاتي.
أفرد شعري فتتدلّى خصلة منه تُغطّي الطرف الأيمن من وجهي. أبدو جميلة، ولم تعد تظهر عليّ آثار تعب أو إرهاق.
الهاتف يرنّ، لا بدّ أنّه وصل. عليّ أن أحضّر نفسي للخروج. انتعل حذائي المسطّح، إذ لا أقوى على الوقوف بالكعب العالي بسبب ما أعانيه من أوجاع في العظم والجسد من وطأة عملي كمدرّسة رسم في "المحترف الفني" للهواة والمبتدئين، وفي مرسمي الخاص أيضاً.
أرتدي سترة طويلة بأكمام، تُغطّي ردفيّ وما بقيَ مكشوفاً من جسدي. ومن ثمّ أختار المنديل الكحلي المـُوشّى بورود زهرية حتى أضعه على رأسي. أحمل المنديل بيدي وأتلمّس شعري باليد الأخرى. أنظر إلى وجهي في المرآة، فأراه وجهاً من وجوه موديلياني الرقيقة.
شعري الخرنوبـي الناعم يُضفي عليه أنوثة وجمالاً واضحين. لم أحدّق في وجهي منذ فترة بعيدة. إنّه يزداد مع الأيام براءة وطفولة. كنت أعتقد أنني كبرت كثيراً، لكنّ ما أراه الآن أمامي يوحي بالعكس. صرت أشبه فتيات لوحاتي. أو أنني كنت أرسمهن على صورتي من غير أن أدري. لا أعرف. لكنّ هذا الوجه لم أرَه منذ زمن. حياتي أصبحت مثل حلبة سباق، السرعة هي ركيزتها. آكل بسرعة، أمشي بسرعة، أعمل بسرعة، أفكر بسرعة، أتكلّم بسرعة... لا يتوقف الزمن إلاّ عندما أدخل محترفي حيث لا ساعة، ولا مرآة. المرسم هو عالمي الذي أفعل فيه كلّ شيء بمزاج، وِفق إيقاع أحدّده أنا.
أمّا الآن فأنا أيضاً على عجلة من أمري. هاتفي يرنّ من جديد... لن أردّ، لا وقت لديّ. عليّ أن أواصل ارتداء ملابسي وأخرج. أتعجّل في وضع الإيشارب على رأسي، أحاول أن أهرب من النظر إلى المرآة، لكنني لا أقوى.
أريد أن أتأكّد من أنّ وجهي مازال جميلاً حتى بعد أن يُبدّل المنديل ملامحه. فأنظر إليه مجدداً. هو وجه آخر يسكن المرآة. أنا لا أتوهّم. إنها الحقيقة. إنني أعرف الناس بالوجوه من شدّة شغفي بها، وأقول إنّ هذا الوجه ليس لي. فأنا تربطني بالوجه علاقة خاصة تجعلني أشعر في أوقات كثيرة بأنّ ثمة صلة قرابة تجمعني بوجوه معينة، قد لا أصادفها في الواقع، وإنما في لوحات وصور وروايات. بينما تربطني بالجسد علاقة ملتبسة. أحسّ أحياناً أنني أضعته وضاعت معه ذكراه، حتى صرت أشعر كأنما جسدي ليس لي. إلاّ أنّ الله عوّضني خيراً بأن منحنيا لقدرة على رسم أجساد الأخريات، بحرفية وشغف. وأنا أعرف جيداً أنّ جسدي بعد احتجابه، زاد معنى حضوره في حياتي. فصرت أرسم أجساداً بديلة عنه. أرسمها وكأنّ جسدي هو الذي يُملي عليّ ما أرسمه.
رسم الأجساد صار وحده الجسر الذي يصلني بالعالم، وبذاتي. هكذا، أضحى الرسم هو حضور الجسد وغيابه في آن واحد. الجسد وحده صار يُلهمني، ويُغريني. أضحت للجسد معانٍ أخرى لم أكن أنتبه لها. صرت أرى الأجساد كاللغات، لكلٍّ منها جمالياتها وقواعدها وخطوطها واستثناءاتها...
عندما وضعت الحجاب أول مرة لم أكن أعرف السبب الذي دفعني نحو هذا الفعل. هل هو الإيمان؟ شخصيتي المغامِرة؟ حبّ التخفّي والتلطّي وراء أجساد أخرى؟ لا أعرف، ولم أكن أعرف شيئاً عن فكرة الحجاب أصلاً.
التجربة كانت غريبة، لكنني أظهرت حماسة لاختبارها. لم أكن أفهم معنى أن تُغطّي الأنثى شعرها، لكنني لم أكن يوماً من هؤلاء الأشخاص الذين يستخفون بما لا يستطيعون فهمه.
دخلتُ المغامرة بكلّ ما تحمله من مصاعب، وكنت واثقة أنني لن أخرج منها مهزومة. ولكن حتى الآن لا أدري إذا كنت حققت به انتصاراً أم لا ! ...
أحببت ذاك التناقض بين مظهري وحقيقتي، بين شكلي وعملي، بين خياراتي واهتماماتي. أحياناً كنت أحبّ أن أرصد تلك الصدمة التي أخلّفها في الآخرين. أفرح لأنني أنا الشخص غير المتوقّع. الرسّامة الفرنكوفونية المثقفة، والمحجبّة!...
مذ كنت صغيرة، أردت أن أكون مختلفة عن الأخريات. كنت أسعى إلى الاختلاف عن غيري في كلّ شيء. فكرتُ أنّ الرسم سيجعلني متميزة، لكنّ الأمر لم يكن بهذه السهولة. والدتي عرفت كيف تنمّي في كلّ واحدة منّا- شقيقتيّ وأنا- موهبتها الفريدة حتى لا تكون واحدتنا أكثر تميّزاً عن الأخرى.
فشقيقتي الكبرى تكتب الشعر، والوسطى تعزف على البيانو، وأنا أرسم. هذا ما أرادته والدتي، أن تكون أمّاً لثلاث بنات متفوقات في مدارسهن ومتألقات في مواهبهن أيضاً.
كانت أمي تستمتع بدورها كأم. تُتقن هذا الدور الذي لا أظنّ أنّه يليق بأحد أكثر منها. حضورها كان طاغياً في المنـزل. وبفضلها، لم تكن أيّ واحدة منّا أقلّ أو أفضل من الأخرى في شيء. هي دعمت مواهبنا وكرّست ثقتنا بأنفسنا كأنّها خبيرة في بناء الشخصيات وإدارتها. أمّا والدي فكان فخوراً لأنّه أب لثلاث بنات جميلات. هو من الرجال الذين يعشقون الجمال، ويُبالغون في الإهتمام بمظهرهم. إنه لا يحبّ شيئاً أكثر من الترتيب والأناقة والرهافة. ومن أجله فقط اعتادت أمي أن تكون داخل المنـزل كما تكون خارجه، أنيقة ومرتبة. ولطالما أبهرتني أمي بقدرتها على تنظيم حياتها بين عملها ومواظبتها على القراءة ومتابعتها لتفاصيل حياتنا واهتمامها بأناقتها وجمالها.

الصفحات