هل الحجاب هو تحد أم انقياد؟ كيف يمكن لامرأة محجبة أن تنظر إلى جسدها؟ كيف ترى الجسد الآخر؟ كيف تتعاطى مع مجتمع منفتح تعيش فيه؟
أنت هنا
قراءة كتاب بوركيني
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
عقدة شعرها المجدولة لا تتغيّر صباحاً ومساءً، كأنّها تنام وتصحو بها من غير أن تتأثّر تسريحتها الأنيقة. الأقراط الماسية الصغيرة تلتمع دوماً في أذنيها. قمصانها الحرير الملونة غالباً ما تُزيّنها ببروش صغير من ماركات عالمية معروفة. ولا تتخلّى عن سكربينتها العالية الكعب إلاّ في ما ندر. كنت أظنّ أناقة أمّي الدائمة شغفاً لديها، وإلاّ لما تمكنت من أن تبذل كلّ هذا المجهود أمام المرآة يومياً، بالرغم من انشغالاتها الكثيرة. لكنّ مشاكلها المستمرّة مع والدي جعلتني أفهم مع الأيّام أنّ هذه المبالغة في إبراز أناقتها، وهي الأمّ المثقفة والعاملة، ليست سوى تدابير وقائية للحدّ من نـزوات أبـي وملاحقته المستمرّة للجميلات. أو ربما لإثبات أنوثتها أمام نفسها بعد كلّ مغامرات والدي النسائية، التي كانت تعلم بها، على رغم تكتّم أبـي الشديد. في البداية، لم أكن أعلم أنّ النساء هنّ سبب مشجارات والديّ التي كانت تمنعنا في ليالٍ طويلة من الإستغراق في النوم. ومع أنّ أمي جهدت في أن تتستّر على مشاكلها معه، وعملت على تفادي الدخول في مشادّات كلامية معه أمامنا، ما استطاعت أن تُخفي عنّا حقيقة العلاقة المتوترة بينها وبين أبـي. أمّا هو، فلم يكن يولي الأمر اهتماماً كبيراً، بل كان يُلاطفها دوماً أمامنا ويتودّد إليها مُظهراً لها حبّه.
لم أتصوّر يوماً أنّ رجلاً يُمكن أن يخون زوجةً بمواصفات أمّي، بذكائها وصلابتها وأناقتها، إلى أن سمعت شهقاتها مرّة وهي تبكي ليلاً. لسنوات طويلة ظننتُ أنّ أمّي امرأة لا تبكي. لهذا كانت دموعها المنهمرة سراً في عتمة غرفتها ثقيلة جداً على قلبـي. سمعتها تبكي وحيدة في غرفتها وهي تعلم أنّ والدي يُعاشر امرأة سواها، وفي ظنّه أنّها لا تعلم بالأمر. كان يعتقد أنّها تشكّ فقط بوفائه لها. وقد فاته أنّ امرأة مثل أمي قادرة بإحساسها الأنثوي أن تكشف خيانته لها، أن تشمّ رائحة هذه الخيانة.
مشهدٌ قاسٍ أن يرى الأبناء أمّهم باكية، مكسورةً، حزينة... لكنّ الأقسى منه حين يكتشفون أنّ والدهم هو من يُبكيها، وهو مصدر أحزانها وآلامها.
دموع أمي الصامتة غالباً لم تنـزع حبّ أبـي من قلبـي، وإنما أحدثت بلا شكّ صدمة لديّ، مع أنني أعلم أنّ خيانته لها ناجمة عن نـزوة لديه. فهو لم يكن يحبّ سواها، لكنه لم يكن يمنع نفسه من خوض مغامراته الصغيرة.
هذه الدموع ربما جعلتني أتخفّف من اهتمامي بأنوثتي. كأنّ تجربة والديّ علّمتني أنّ أناقة المرأة وجمالها لا يُساويان شيئاً في حسابات رجل من الصعب أن يكتفي بامرأة واحدة.
أبـي ليس قاسياً، ولا أظنّه تقصّد يوماً إيذاء أمّي أو إهانتها. كلّ ما في الأمر أنّه رجل يضعف أمام فتنة الجمال والأنوثة، لا سيّما أنّه "الجنتلمان" الذي تنجذب إليه النسوة. وأمي كانت تعلم في قرارة نفسها أنّ زوجها يُحبّها ولا يُفضّل امرأة عليها، لولا عجزه عن مقاومة نـزواته العابرة.
فكانت كلّما ينشغل عنها بنساء أخريات، وبالسرّ كعادته، تنشغل هي بتجميل نفسها، من غير أن تُقصّر يوماً في واجباتها معنا. وأظنّها لم تكن تُحبّذ فكرة الإنفصال عنه واللجوء إلى الطلاق، لأنّها تُحبّه مثلما تُحبنا، وتُقدّس الأسرة وتخشى عليها أكثر ممّا على نفسها.
لكنّ أبـي برغم زحمة أعماله وأسفاره وعلاقاته، لم يغِب عن حياتنا. نحن، بناته الثلاث، كنّا بالنسبة إليه عرائسه الملوّنة، وأنا كنت دميته الصغيرة ذات الشعر "الأحمر". ولهذا كان، ومازال، يحبّ أن يُناديني باالفرنسية ma p’tite rose ، أو وردتي الصغيرة.
اختلافاتنا البسيطة، نحن الشقيقات، لم تكن تُحدث الفرق، فبقينا ثلاث بنات متشابهات في نظر والدينا، والناس.
أمّا أنا، فكنت الوحيدة التي لم تكن راضية بذلك. كنت أبحث عن تفرّدي في كلّ شيء. لا أريد أن أكون مثل أحد. ولا حتى مثل شقيقتيّ. كنت أريد أن يتكلمّوا عني بصيغة الفرد، لا الجمع. كأن يقولوا مثلاً هذه الفتاة لا تُشبه شقيقتيها، إنها أقلّ جمالاً منهما، أو أكثر، لا فرق. وكم حلمت بهذه الجملة خلال أزمة المراهقة. وفي كلّ مرّة كان يثني الناس فيها على حسننا، نحن البنات، كان والدي ينفش ريشه كديك رومي، فخوراً بنا، وتنظر أمّي إليه معتدّة بنفسها، كأنّها هي صاحبة الفضل في ذلك. كنت أشعر بامتعاض كبير، كأنني أرفضني أو أنني أبحث عن شيء ما لا أعرفه. عن شيء يصنع لي هويتي الخاصة.