كتاب " بدرية " ، تأليف وليد الرجيب ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب بدرية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
بدرية
لم يكن «بونشمي» ليلاقي هذا الاستقبال وهذه الحفاوة لولا نفوذه وسطوته، فهو يملك معظم الدكاكين في السوق بما فيها سوق الخضار، وسوق السمك، وسوق العطارين، وسوق اللحم، وسوق الحلوى، ولديه بيوت كثيرة في أنحاء الكويت يؤجرها للناس، ولديه سفن خشبية، كما يسيطر على تجارة الأخشاب والذهب ويملك أراضي، فهو بحق شيخ البر والبحر كما يطلق عليه البعض، ويتناقل الناس أن له يداً في «شركة الجاز»، كذلك يستورد الإسمنت والمواد الكهربية.
ورحلته التي دامت ثلاثة أشهر إلى البصرة، كانت بهدف تحصيل ثمن بلح النخيل الذي يملكه هناك، ولزيادة مساحة بساتينه، وبالطبع لم يكوِّن هذه الثروة وحده، فهو غني ابن غني ابن غني.
همست النساء بأنه تزوج هناك من عراقية، وتميزت إحداهن بمعرفتها لأوصاف الزوجة، التي قالت إن أخت زوجة أخيها قالت لها:
ـ بونشمي تزوج بنت الرابعة عشرة، بيضاء كالحليب، ناعمة كالحرير، عيناها كعيني الغزال، وفمها كخاتم سليمان، وشعرها أسود كالليل يصل إلى تحت ردفيها.. ممتلئة مدللة بنت شيخ شيوخ العشائر.. «بضة غضة.. إذا وقع البرغوث على خدها قضه».
ورغم أن هذا الوصف يشبه وصف الخطّابات الزائف والمستهلك، والذي ينطبق على كل عروس يسأل عن أوصافها، إلا أن النساء عممنه وزدن عليه، ولكن المسألة ظلت في حيز التخمينات.
وتهامس الرجال حول الصبي الجديد الذي أحضره بونشمي معه من الزبير، لمحوه وقاسوا عمره وتفرسوا في ملامحه، وحسد البعض بونشمي.
ـ ألا يكفي الصبيان الذين يعملون لديه؟!
فرد أحد الرجال:
ـ «قط فلوسك في الشمس.. واقعد في الظل».. ما قيمة الفلوس إذا لم تمتع صاحبها؟.
ولكن لم يجرؤ أحد على التصريح بأي شيء أمامه.. أو أمام مساعده وكاتبه عيسى.
**
تبعناه وكلنا أمل أننا سنحصل على شيء ذي قيمة.. بضعة «آنات» ربما ، فقد طبع في أذهاننا أنه مصدر الخير، وذو اليد الندية كما يقال عنه، وقد وعينا ونحن نسمع أنه أقرض فلاناً مبلغاً من المال، وأن فلاناً كان على حافة الجوع فأنقذه «بونشمي» ورهن بيته.
**
نذكر من الأعياد وبالأخص عيد الأضحى أن الأهالي كانوا يشتركون في مائدة تحتوي طبخ بيوت الحي، تمتد خلف مسجد «حولي» من أوله إلى آخره، بينما تمتد مائدة بونشمي وحده من آخر المسجد وحتى «البحرة»، التي سميت كذلك لأنها تسيل حافرة مجرى واسعاً كالبحر في موسم الأمطار، ونعتقد أنه لولا «حوطة بوعيسى» المليئة بشجر السدر، والتي كانت تحد البحرة من الشرق، لامتدت مائدة بونشمي إلى مالانهاية، فقد كان صبيانه ينتظرون أهالي الحي ليفرشوا مائدتهم، ثم يبدأون بفرش مائدة أضعاف طول الأولى، وكنا نأكل حتى نتخم ولا نكتفي بالصحن الذي أمامنا، ولكننا كنا نتنقل إلى أطباق كثيرة بعد أن يقوم الرجال لنتذوق أصناف الطعام التي بذلت النسوة مجهوداً ضخماً فيه، فمن تنظيف لحم الخراف التي ذبحت إلى تقطيعها وطبخها.
ونذكر قبل ذلك ذبح الأضاحي.. فحيثما نرى «ضاوي» وهو يحمل سكاكينه وساطوره الحاد نتبعه على الفور.. وحتى الخراف ما إن تشاهده حتى تحاول الهرب، وكأنها تعلم أنه قادم لذبحها، فتفر من بين يديه، ونجدها فرصة لملاحقتها والقفز عليها وإمساكها من فروها المجعد، ثم نجرجرها من آذانها وقرونها، بينما يصيح علينا الكهول بلحاهم البيضاء:
ـ «شوي شوي يا عيال بالهون على البهايم»..
ويحملها ضاوي بين يديه السوداوين الضخمتين، كأنها قطط صغيرة، ثم ينزع عنه البالطو الطويل الكاكي من مخلفات الحرب العالمية، ويقلبها دون مشقة ويلوي أعناقها بعد أن يبرك على أرجلها فيشل حركتها، ويبسمل بعد أن يتأكد أنه باتجاه القبلة وسرعان ما ينطلق الدم من حنجرة الخروف المفتوحة إلى مسافة بعيدة. وبعد أن يعلق الذبيحة ويفتح بطنها.. يتذوق كبدها الساخن النيء، يترك الرجال ليكملوا سلخ الخروف، ويتجه لذبح خروف آخر وقد ازدادت عيناه احمراراً، وتلوثت ملابسه ويداه بالدم.
غالباً ما يضحي أهل البيت في حولي بخروف واحد أو اثنين حسب حالتهم، ولكن بونشمي يجمع أضاحيه في زريبة مؤقتة من التنك، وقد تتكون من عشرة إلى خمسة عشر خروفاً، وأحياناً يفاجئنا فيضحي بجمل أو اثنين، وهنا تكون المتعة والدهشة الحقيقية لنا.
كنا نتسابق إلى بونشمي لنبارك بالعيد، حرصاً على العيدية الكبيرة، التي يوزعها عيسى علينا بعد أن يأذن له بونشمي:
ـ أعطهم يا عيسى، يستاهلون.
**
ولكن عيسى هذه المرة لم يعطنا غير ضربات خفيفة على مؤخراتنا بالخيزرانة التي يحملها بيده كي يبعدنا عن بونشمي، ناهراً إيانا دون أن يرفع صوته:
ـ «ياللّا.. ابعدوا.. من هنا.. هيا»..
فركضنا باتجاهات مختلفة، ثم تجمعنا مرة أخرى..