رواية " يوم غابت الشمس"، هذه الرواية: على مشارف المدينة القديمة، وقفت طويلاً، وقفت أتأمل واسترجع بذاكرتي صور الماضي القريب لهذة المدينة التي أنهكتها الحوادث وأنهكها تطاول الزمان، بيوتاتها الفخمة هرمت وشاخت واستحال بعضها إلى خرائب.
أنت هنا
قراءة كتاب يوم غابت الشمس
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
وقفز السقاء إلى الامام مغتاظاً وأطبق على رشمة(6) الحيوان يقوده بنفسه فتراجع الشاب مستخِفّاً فرمقه الرجل بنظرة إزدراء ما لبث أن صرخ بعدها:ً
- حرتيش.
- عرفتني للتو؟!
- إبتعد عن الطريق وخاف الله.
- أبتعد؟!.. أجل سأبتعد. ولكن كيف أبتعد وأنت تدعوني (حرتيش) يا عمّي السقّاء؟
ثم ما هذا؟.. وأشار إلى القِرَب بعصاه وأردف:-
- ماء عذب وبارد، لا أراك ذاهباً به لغير سوزان.. اليس كذلك؟
- اللعنة عليك وعلى سوزان إن كان بيننا شيء.
- الله… ألم أركَ بأمِّ عيني تدخل بيتها حاملاً قربة الماء مطأطيء الرأس كخادم ذليل.
- كان ذلك قبل أشهر قبل أن…
وسكت الرجل وندّت من شفتيه حسرة وزفرة حانقة.
- قبل أن ماذا…؟ ها؟… وأدرك الرجل زلّة لسانه فقال:-
- اعوذ بالله من الشيطان الرجيم… إذهب واكفني شرّك.
- وسوزان؟
- هناك ألف من يجلب الماء لها.
- وأنت أولهم.
وحمل الفتى على الحمار مرة أخرى وأخذ ينخس بطنه بعصاه بلا رحمة فجعله يتلوّى من الألم ويسير جانباً ويرفس الهواء وصاحبه يصيح:
- أتقِ الله… أتقِ الله.
وأخيراً إرتخى الحبل وتمايلت القِرَب فوق ظهر الحيوان وسقطت إحداها على الارض متدحرجة فتلوثت بالتراب الجاف وروث الحيوانات حتى اعترضتها صخرة كبيرة أسفل الطريق فأوقفتها والرجل يصيح:
- لا حول ولا قوة إلاّ بالله.
إكتفى حرتيش بإسقاط القربة وأدار ظهره وغادر الربوة مخلِّفاً وراءه سليمان السقاء وحماره يعودان أدراجهما إلى أسفل المنحدر والرجل يسبُّ ويشتم والريح الخفيفة الندية تنقل الفاظه تلك إلى حيث لا يسمعها أحد، فما تزال المدينة في سبات الدقائق ألأخيرة من ليلة صيف قصيرة والأهالي مازالوا يتململون في نومهم على أسطح المنازل العالية، والطرقات خالية من روّادها إلاّ من عباد الله المصلين ذاهبين إلى مساجدهم وجوامعهم أو آيبين منها، وباستثناء قافلة صغيرة من النساء يبكرن في الخروج من أزقة الموصل الضيقة ليعبرن الجسر الخشبي إلى الضفة الشرقية لنهر دجلة.
ويزداد عدد أفراد هذه القافلة مع ازدياد انسكاب أشعة الشمس الأولى على المعمورة. وتسير النساء فيها جماعات صغيرة متعاقبة بجلابيبهن الطويلة كاشفين الحُجُب عن وجوههن فتبرز مفاتنهن في غفلة من الرجال، ويتمايلن ويختلن في مشيتهن ثم لا تلبث أن تعلو أصواتهن كأصوات سرب من طيور مهاجرة، كيف لا والدنيا لهن في تلكم الساعات حيث لا رجال يتربصون بهنّ أو ينظرون اليهنّ أو يتعقبوهنّ حتى إذا ما وصلوا الجسر الخشبي أخذت حباله والواحه تهتز فوق الماء الهادئ الناعس.
وهؤلاء النسوة المبكرات لا يشعرن بثقل بُقَج (7) الملابس الكبيرة المحمولة فوق رؤوسهن المنتصبة أو التي يحملنها بأيديهنّ إلى جوارهن، وما أن يعبرن إلى الضفة الأخرى حتى يفترشن الأرض الحصباء على حافة الماء لغسل الملابس المتسخة غيرعابئات بأصوات الحيوانات المنطلقة من غابة قره كوز(8) خلفهن.