أنت هنا

قراءة كتاب القصائد المائية - دراسات أسلوبية في شعر نزار قباني

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
القصائد المائية - دراسات أسلوبية في شعر نزار قباني

القصائد المائية - دراسات أسلوبية في شعر نزار قباني

كتاب " القصائد المائية - دراسات أسلوبية في شعر نزار قباني " ، تأليف سمير الشيخ ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2008 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 8

فمن المعلوم أنه في الإجراء التواصلي الاعتيادي تتلازم الصيغة الفعلية «يغسل» تلازماً لسانياً ولفظة «الماء». هذا التجاور التلقائي للألفاظ لا يتحقّق في اللغة الشعرية، فهذه اللغة تحقِّق قدراً من التوتر عن طريق الانتقاء الدلالي اللامألوف. وبهذا تبدو العلاقات داخل البنية الجمالية علاقات سالبة لأنها تقوم على التوتر والتناقض والصراع. فلقد أسبغ قباني على التجريدي «الحب» صفات الكائن الحي. وهذا التشخيص من شأنه أن يشحن البنية بدينامية جديدة. كذلك فإن انتقاء الألفاظ المتداولة في اللغة الدارجة كما في لفظة «يشيل» في البيت الثاني يدفع إلى مثل هذا القدر من التوتر:

يشيل عني الرمل والحجارة.

ويمكن أن نجادل مع (موكاروفسكي) من أن الألفاظ التي تنشأ في اللغة الدارجة واللهجات أو اللغات الأجنبية، غالباً ما يتم تبنِّيها بسبب من أصالتها وغرائبيتها، أي لأغراض التكوين اللساني الأمامي الذي يلعب فيه التقويم الجمالي دوراً أساسياً. ويتضح لنا من سير المعنى أن العنصر اللساني «حبك» هو العنصر الجمالي المهيمن الذي يوجِّه حركة النص:

يدخلني في قصره المائي كل ليلة

يدخلني في زرقة العبارة.

في هذه الأبنية الاستعارية نجد أن عبارتي «قصره المائي» و«زرقة العبارة» تنتميان إلى الحقل الدلالي للماء، وفيهما نلحظ ذلك التراسل بين المادي والمعنوي بحيث تتشكّل الأفكار في سياق صوري دائم الحركة (28). هذا السياق في جوهره سياق رمزي. فالمشهد بكليته مشهد رمزي، وصياغة «زرقة العبارة» صياغة رمزية. إن إضفاء الحسي (الزرقة) إلى التجريدي (العبارة) من شأنه أن يذيب المادة اللسانية لكي يخلقها خلقاً جديداً. فهنا الألفاظ تفقد قيمتها المعيارية بالقياس إلى قيمتها الإيحائية. والبناء الاستعاري في (الحضارة) يتجاوز تشكيل عناصره إلى إحداث نوع من الغرابة والتأثير الذي تخلقه الطريقة التي تكتسب بها تلك العناصر فاعليتها الجمالية. فالاستعارات المائية، هنا، استدعتها قدرة الخيال لبناء المشهد الرمزي. هذه الاستعارات لا تبني المشهد الرمزي فحسب بل تقود خيال القارىء إلى التجريدي البعيد. والاستعارات بدفقاتها المتواترة تشكِّل بمجموعها «استعارة ممتدة». إن مستويات النظام اللساني تكتسب في لغة قباني قيمة مستقلة ذات أهمية خاصة. فعلى مستوى النحو، نجد الأفعال المضارعة «يغسلني/يشيل/يدخلني» هي التي توجِّه حركة الزمن داخل النص. واستعمال الصيغة المضارعة تجعل التجربة بكليتها حاضرة أمام نظر المتلقي، كما أنها تشحن المشهد بالحيوية والحركة. ومن اللافت للنظر أن قباني يتخلّى عن (واو) العطف ليضاعف من رمزية المشهد. على المستوى الدلالي، نرى أن قباني يعمد إلى ألفاظ الماء «يغسل/الثلجي/زرقة» لبناء الصورة الذهنية للواقع، أما على المستوى الصوتي (الفنولوجي)، فإن تقفية (الحجارة/العبارة) تجعلنا على وعي برمزية الصورة مثلما هي عامل هارمونية وتنغيم. ويظل العنصر الجمالي يهيمن على علاقات البناء الشعري ويسير المعنى فيه حتى نهايات النص:

وعندما أسأله:

من أنتِ يا حبيبتي؟

يرفع لي عن وجهكِ الستارة

ثم يقول: ها هي الحضارة.

يأتي القول الشعري الأخير بصيغة حوارية يتوحْدن فيه المعياري والاستعاري حتى يبلغ البيت الأخير الذي يشكِّل (الضربة). ونحن نرى أن القيمة الجمالية المهيمنة تبدأ بالبيت الأول وتسير متنقلة عبر الأبيات الشعرية حتى البيت الأخير.

يشكّل البيت الأخير تكويناً استعارياً طرفاه (المرأة = طبيعة بشرية) و(الحضارة = طبيعة تجريدية). ونحن نشعر بتلك الفجوة بين طرفي الاستعارة، غير أن هناك شرارة، كما يقول (سي. دي. لويس)، تقفز لتملأ الفجوة، لتشع لا لتنطفىء، فجماليات المرأة تضيء جماليات الحضارة.

تقوم قصيدة (الحضارة) على مبدأ التناقض بين محورين: «البداوة» التي ينتهي بها البيت الأول و«الحضارة» التي ينتهي بها البيت الأخير. والشاعر يشعر بذلك الإشراق الروحي وهو ينتقل من طور «البداوة/اليباب» إلى طور «الحضارة/المرأة». المحتوى الشعوري ينعكس في الاستعارات المائية، وهي استعارات جمالية بطبيعة الحال. يشكّل الجزء الأول من القصيدة مشهداً رمزياً: الحب ـ هذه الفكرة المتجسدة صورياً ـ يغسل المتكلم ليزيل عنه أوشاب البداوة وليدخله في قصره المائي (وهي صورة تذكّرنا بصورة القصر العجائبي الذي بناه ـ قبلاي خان ـ على ضفاف نهر «آلف» السحري) كما جاء في قصيدة (كوليرج). ثم يدخله في (زرقة العبارة)، وهي عبارة صورية تستدعي إلى الخيال صور آباء الرمزية الأثيرة، إذ إن مائية الصور تشكّل السمة الأسلوبية الأكثر بروزاً في منجز قباني الشعري على مدى أكثر من نصف قرن. ثم يرفع الحب الستارة ليطلّ المتكلم على مشهد ترتبط فيه جماليات المرأة بجماليات الحضارة. هنا نرى أن الذائقة الجمالية لقباني تقف على النقيض من الذائقة الجمالية العربية الكلاسية. نساء قباني «المدينيات» هنَّ لسن نساء الشعر العربي الكلاسي. المتنبي الشاعر يفضِّل «حسن البداوة» ويجعله متقدماً حتى على صعيد النحو الشعري:

حسن الحضارة مجلوب بتطرية

وفي البداوة حسن غير مجلوب (29)

الصفحات