أنت هنا

قراءة كتاب القصائد المائية - دراسات أسلوبية في شعر نزار قباني

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
القصائد المائية - دراسات أسلوبية في شعر نزار قباني

القصائد المائية - دراسات أسلوبية في شعر نزار قباني

كتاب " القصائد المائية - دراسات أسلوبية في شعر نزار قباني " ، تأليف سمير الشيخ ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2008 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 9

قد يشكِّل القول الشعري الأخير «ها هي الحضارة» مجازاً رمزياً. فالرمز ـ كما يقرِّر (بينيه) ـ صورة (image) تمثّل فكرة. وإن من طبيعة الرمز أن يكون تلقائياً ذاتياً، أساسه أن يتعقّب الشاعر العلاقات الخفية بين أفكاره ومشاعره ـ بوصفها عناصر ذاتية ـ من ناحية،والأشياء بوصفها عناصر موضوعية من ناحية أخرى (30). ولكي نحصل على الرمز لا بدّ أن يكون هناك مستويان: مستوى الأشياء الحسية أو الصور الحسية التي تؤخذ قالباً للرمز، ومستوى الحالات المعنوية المرموز إليها (31). في المجاز النزاري، نرى أن المرأة هي الصورة الحسية التي تمثِّل ما هو تجريدي (الحضارة)، غير أن منظِّري الرمزية يرون أنه لا بدّ من وجود علاقة بين ذينك المستويين، هذه العلاقة هي التي تهب الرمز قوة التمثيل الباطنة فيه، نعني علاقة المشابهة التي لا يقصد بها التماثل في الملامح الحسية بل يقصد بها تلك العلاقات الداخلية بين الرمز والمرموز من مثل النظام والانسجام والتناسب وما إلى ذلك من سمات أساسها تشابه الواقع النفسي في كليهما (analogy) وهو من هذه الناحية ـ كما يقول (تندال) على علاقة بالمجاز (metaphor) ولكنه مجاز شطره غيرموضوعي أو محدّد، ونعني ذلك شطره الموحى به (32).

واستناداً إلى هذا، فإنه لا بدّ للرمز من أن يشغل حساسيتنا بتغطية الفكرة وحجبها، وبقول مختصر أن يحل محلها، وبالتالي أن يمنعها من بلوغ منطقة الوعي الواضح (33). ومن اللافت للنظر أن ثنائية «المرأة/الحضارة» سوف تظهر بصورة جلية في قصائد قباني اللاحقة. ففي مقطوعة «افتراضات رمادية»، يظهر ذلك التداخل بين الجمال والثقافة والشهرة والإبداع والخلق، «صعب أن أتصوّر حضارة لا تشرب من ينابيعك». غير أننا نرى أن الرمز في المجاز الرمزي لا يحجب الفكرة كما هو الحال في قصيدة «تنويعات موسيقية عن امرأة متجرّدة»، وهو أمر لا نعدم وجوده في أشعار (بودلير)، إذ يظهر الرمز والمرموز، ومن هنا يقف بعض شعر (بودلير) على حافة التشبيه لا يتعداه:

رأسك وإيماؤك وروحك

جميلة كالريف الجميل

والضحكة التي على وجهك تشبه النسمة الرقيقة في سماء صافية (34).

وهكذا نرى أن قباني لم يكن بمنأى عن التأثيرات الرمزية. يقول قباني في «قصتي مع الشعر»: «ونشأنا في ظلال الثقافة الفرنسية... نقرأ راسين، وموليير، وكورناي، وموسيه، ودوفيني، وهوغو، وألكساندر دوماس، وبودلير، وبول فاليري، وأندره موروا في لغتهم الأصلية ونتذوّق الأدب الفرنسي من منابعه» (35). ويقول الناقد (نذير العظمة): «نزار لم ينكر في سيرته الذاتية تأثره بالشعر الفرنسي ولا سيما المدرسة الرمزية وأساطينها، كما لم ينكر تأثره في بداياته بالشعر في لبنان الذي كان بدوره حاضناً لرمزية شارل بودلير ومالارميه وفرلين» (36).

قلنا، فيما سبق، إن موكاروفسكي قد أدرج تحت عنوان (المادة) الموضوع Thème بما يضمّه من الصور والأفكار والمشاعر واللغة. وفي فن الشعر ليس هناك من خلاف جوهري بين الموضوع واللغة، إذ إن موضوع النص الشعري يمثِّل وحدته الدلالية الكبرى. في (الحضارة)، لا تشكّل المرأة/الحضارة خرقاً قصدياً على صعيد اللغة فحسب بل على صعيد الموضوع أيضاً. فالإدماج بين الحالة الجمالية الحسية (المرأة) والحالة الجمالية الذهنية تعدّ موتيفة لم تألفها الشعرية العربية الكلاسية التي توقفت عند حدود التوصيف الشعري للمحاسن الأنثوية دون ربط صورة المرأة بالسياقات الإنسانية. وفي واقع الأمر، فإن (المرأة) و(الحضارة) ماهيتان مختلفتان: المرأة تجسيد والحضارة تجريد. والأساس المشترك بينهما هو أنهما حالة عقلية ونفسية. فالصورة الحضارية ـ مثلما هي المرأة ـ ينبغي أن تكون حاضرة في الذهن وهكذا ترتبط المرأة بالحضارة على الرغم من أن المرأة حقيقة واقعة وأن الحضارة سابقة على التاريخ (37). ولكن ثمة حقيقة لا بدّ من الإفصاح عنها وهي إذا كانت المرأة «حالة عقلية ونفسية» على سبيل التماثل الموحى به، فإن هذه الحالة لا بدّ أن تنمو نمواً طبيعياً في فضاءات من الحرية والجمال. وهذا النمو لا يتحقّق إلّا بقيام واقع لا قمعي. إن نشوء واقع لا قمعي بعيداً عن التشيؤ (استخدام الجسد كأداة للذة):

إياك أن تتصوّري

إني أفكر فيك تفكير القبيلة بالثريد

وأريد أن تتحوّلي حجراً (38)..

ونشوء واقع يقوم بصلابة ضد الإرهاب الجسدي الذي تمارسه القوى القهرية على أرض الواقع:

ما زال أبو لهب يتمطّى فوق وسائد هذا الشرق

يتسلّى في قص الحلمات

وقطع الثدي، وضرب العنق (39).

ونشوء واقع يكرِّس التهذيب الحضاري للجنسية وتصعيدها إلى مرتبة الحب:

العالم عشق... فاتحدوا يا أهل العشق (40).

هي أفكار تومىء بها أشعار قباني على مدى أكثر من نصف قرن. يرى (ماركوز) في (الحب والحضارة) أنه ينبغي للإنسان أن يكون موجوداً سامياً حتى وهو على مستوى ارتوائه بالضبط، وخاصة ارتوائه الجنسي، فينصاع وهو هناك للقيم السامية، أي أن على الغريزة الجنسية أن تكتسب جدارتها من الحب (41). يحلِّل الناقد (محي الدين صبحي) في (الكون الشعري عند نزار قباني) إنجاز الشاعر وشجاعته في مواجهة الآخر فيرى أن شجاعة الشاعر تتحدّى المجتمع في صميم قيمه وأما إنجاز الشاعر فإنه يؤدِّي إلى تغيير طريقة الحياة الموروثة بأكملها ـ وبذلك لا يقتصر الشاعر على أن يكون مكتشفاً للجمال وخالقاً له ومعبِّراً عنه، وإنما يكون مكتشفاً أيضاً لطريقة للحياة الجميلة، وممارساً لحريته في خلقها، ومعبِّراً عن جمال الحرية وحرية الجمال. إنه داعية إلى أخلاق جديدة وحضارة جديدة (42).

الصفحات