كتاب " حرافة " ، تأليف بوعلام صنصال ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2007 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
إلى القارئ
أنت هنا
قراءة كتاب حرافة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

حرافة
وما هي هذه الحياة التي أحياها وأنا شبه مكفّنة مدفونة في بيتي المتداعي المتهالك؟
مرّ شهر كامل وأنا أتراوحُ مكاني، وذرفتُ كل دموعي حتى جف جسدي. كنتُ أستحي أن أرفع رأسي: أمّاه، لقد ضاع أخي الصغير! أبتاه، لقد ضاع أخي الصغير! كان يتأَكلني الشعور بأني خنتُ الأمانة ولم أحفظ الوديعة. كنتُ أرقدُ في غرفته للإيهام بوجوده.
وذات مساء، كلمني بالهاتف من وهران. هناك، في تلك المدينة التي لا يشبه أي شيء فيها مدينة الجزائر، لا اللغة ولا الدين ولا طعم الخبز!
- أين، في وهران؟
- عند صديق.
- أتسخر مني؟ كل أصدقائك موجودون هنا، في بيوتهم أو معتكفون لانتخاب البابا.
- لا تقلقي.
- كفى مزاحاً، هيّا ارجع!
- فيما بعد.
- متى؟
- لست أدري.
- أعطني عنوانك حتى أرسل إليك بعض المال.
- ليس لي عنوان.
- وصديقك هذا متشرد، أليس كذلك؟
- ...............
- ألو .... ألو ..... ألوووو ....!
كان الصبي الوقح قد أصيب بعدوى اللكنة الوهرانية، وصار يقول "واه" بدل "إيه" ويطقطق بلسانه! أما الباقي فهو كما هو، مندفع، عنيف، وعنيد وأحمق للغاية .... وطيب كالملاك لما يرغب في ذلك. ولم يكلمني في الهاتف بعد ذلك أبداً. هل قلتُ له كلمة زائدة وفي غير محلها؟ ممكن، ولكن لا يهم، فكلهم سواء، حمقى وسريعو التأثر ومماحكون. وما زالت القضية تنخر في ذهني أكثر فأكثر، إذ من الصعب أن تكون المرأة شقيقة رجل ظل طفلاً. كم من رجل يدرك ذلك حقاً؟
بدت لي الدار فجأة مروعة، ازداد الفراغ وطأ بشكل مرعب وتضاعف ثقل السكون. لم تصبح لدي أجوبة ولم تكن معي أسئلة. ولم يكن في وسعي التفكير بل صار يكفيني تعذيب نفسي. لقد فقدتْ كل الأشياء قيمتها لديّ وصار بإمكان الروتين اليومي أن يحل ويأخذ مني كل شيء، فالموت لم يصبح قدراً محتوماً مؤلماً بل فرضيّة يأتي معها الخلاص. أجل، أعترف أنني مررت بمرحلة التفكير في الانتحار، اتخذت قرار ذلك ولم يبق لي إلا أن أجد جواباً للوقت المعين والطريقة المحددة لتنفيذ ذلك. لم أعد أذكر كيف جعلني الإصرار مشوشة الأفكار لا ألوي على شيء، ثم، انتفضتُ، فأنا هكذا خلقتُ، أصابُ باليأس والإحباط لأجد الدافع على الانقضاض.
وجاءت شريفة كما لو كانت غازية. كيف يمكن أن أتصرف معها هي الأخرى؟ إنها تستفزني، ولا أطيق كثرة غيابها ونزواتها، كما لا أتحمل فوضاها ولا حتى وجودها. وفوق كل ذلك لا أستسيغ إطلاقاً صوتها الذي يشبه صوت الرضيع الصيّاح، فأنا في حاجة إلى السكينة والسكون وأريد أن يكون كل شيء واضحاً في حياتي. كما أنني في حاجة إلى أن أكون قادرة على أن أقول لنفسي، في أي وقت ودون التفكير في العدول عن رأيي، هذه حريتي وتلك إرادتي.
يا إلهي، إلى أي مدى نحن أسياد حياتنا بالمعنى الحقيقي؟
جاء أول تصرف طائش منها بسرعة في اليوم التالي، كنا بصدد الانتهاء من تناول فطور الصباح؛ ومن أجل التكفير عن حصة التعذيب الذي مارسته عليها في مساء اليوم المنصرم قمتُ بإخراج ما ادخرت من حلوى راحة الحلقوم وبسطتُ سماط المائدة الذي ورثته عن المرحومة أمي، وكان كلانا يلبس خف المنزل والمبذل وما زالت تطفو في عيوننا بقية رغبة في النوم، كان الجو لطيفاً وظريفاً وعائلياً وما زلتُ متأثرة ومنفعلة. ابتلعتْ حبة سكر وصعدتْ لتلبس كسوتها الغريبة. أما ماذا قالت وبماذا أجبتها فإني لا أذكر شيئاً. مرّ كل شيء بسرعة، وكنت فظة معها، ولو كنتُ صريحة لقلت إني طردتها، وسرعان ما ندمتُ على فعلتي.
- "عمة لامية إني خارجة للفسحة". قالت ذلك وهي واقفة تنتعل حذاء ذا كعب عال جداً.
- اذهبي إلى حيث شئت، المهم ألا أراك مرة أخرى.
- أتعطيني بعض النقود؟
- ثم ماذا أيضاً؟ لقد نمتِ، وأكلتِ، وضحكتِ ... حسنٌ، هذه مائة دينار ... ولا داعي للشكر.
- هذا كل ما تعطيني... مائة حبة فقط؟ ماذا عساني فاعلة بها؟
- تكفيك لمهاتفة أهلك.... هل تسمعين؟ ... حسنٌ، ماذا أقول؟ لا أعرفك، هل فهمتِ... إن لي حياتي... وليس لأن أخي الأبله أعطاك عنواني عليّ أنا الاعتناء بك .... حسنٌ، هاك مائة دينار أخرى ... لم يبق معي أي شيء... فالمرتب أتقاضاه مرة كل شهر، وأنت لا علم لك بذلك، لا شك..."
وبينما كنت منهمكة في الشرح والتوضيح كالمعتوهة، أخذتْ هي المال ووضعته في جيبها وأمسكت زوّادتها ورمتْ بحبة راحة الحلقوم في فيها وخرجت وهي تهز كتفيها، أما سلام الوداع والشكر على الجميل فيبدو ألّا حظّ لي فيهما في هذه المرة.
لقد كان الرجوع إلى الفراغ قاسياً وعنيفاً. لم أكن أتوقع حدوثه بهذا الشكل، بل كنت أراني عائدة شيئاً فشيئاً إلى فنائي المطلق، غير أنني أحسست بالألم يعتصرني، فالفراغ الذي أنا فيه سببه الفراق. ثم هناك الغياب الذي يحل علينا لكي لا يرحل أبداً، يأتي ليعشش فينا. وتألمتُ لذلك أشد الألم، وها أنا أجرّبه لمرة أخرى. ثم، تفه، هذه المجنونة لا يربطني بها أي رابط! بالأمس فقط كنتُ أنظر إليها كمن نزل عليّ من كوكب آخر لتحلّ في حديقتي دون أن تكترث أدنى اكتراث. وأراني أتساءل في الوقت الحاضر هل الصدرية المنتفخة التي تلبسها لها علاقة بسكان المريخ أو زحل. وسواء جاءت من وهران، هذه البلدة الجزائرية، بتوجيه من أخي الأحمق، فإن ذلك لن يغير في الأمر شيئاً. كل ما أعرفه عنها، أنها بلا عنوان معروف، وهي حامل من مجهول أو أكثر، ولن يحبّبها كل هذا إلى قلبي أبداً، فلكلّ دواره الخاص به والأبقار في الحفظ والصون كما يقول المثل عند بعض الأمم. وهكذا شردتُ كالمخبولة في الدار، رفيقة دربي الوفية، متلهفة على استرجاع وعيي وإدراكي. لم أكن أرى شيئاً، ابتلعني الفراغ أنا أيضاً، والآن بلغ انتشاره الحيّ بكامله، وأصبح كل شيء ملخصاً في الصمت والجحيم الأبدي. وكذلك ما زال شهريار، أو خياله، في مكانه المعتاد. هل ينام هذا المخلوق؟ أما اللغز، فهو معقول، ولكن ليس في كل مناسبة. فلقد كان تمثاله الجامد التقاطيع يرقبني من علٍ. ثم فجأة، توارى عن الأنظار، ماذا ... هل ما لمحتُه كان حقيقة؟ هل هذا ما حدث؟ كان في طريقة الإشاحة عني بظهره علامة على الاستياء، وفي الأخير، أف، ما شأني!
في المستشفى، نظرتُ إلى الزملاء وكأن كلّاً منهم كان حاملاً همّ الدنيا بأسرها. وأعدتُ النظر من باب الاطمئنان والتحقق، فوجدتُ أني كنتُ محقة، ففي وجه كل واحد منهم العقابيل المعتادة. يا إلهي، كم هم متجهمون في زيّ زريّ كأنهم فزاعات! إنني لا أطيق بالمرة طريقتهم في تصعير خدهم وانتفاخهم، وكنتُ أسمعهم يتنطعون: " هم م، هم م، نحن أنسباء السلطان، تنحّ عن طريقنا!". لقد كانوا يسرحون ويمرحون ذهاباً وإياباً بذات الطريقة في التسيب التي أهلكت البلد، هذا التسيب الذي انتشر في ظل العولمة ليعم أرجاء المعمورة. وكانوا يتكلمون وهم يتصايحون بالطريقة نفسها ليزيد بعضهم صمم بعض خطورة واستفحالاً. وإذا قاموا يغنّون أو يصوفرون أو يدمدمون أو يبكون أو يتخاصمون أو يهنئ بعضهم بعضاً، أو يخرّبون أو يبالغون في الاندفاع، فإنهم يفعلون ذلك بطريقتهم المعهودة، بلا زيادة أي شيء جديد أو مخالف. فقد يجد المرء ألف نقيصة ونقيصة في حصيلة عملهم، ولكن كل ذلك لا يهمّ، فأفعالهم يندى لها الجبين ومعروفة لدى العام والخاص، ومع ذلك أرى أنهم يبتسمون فوق اللزوم، هل ثمة سبب، ولو سبب واحد فقط، يجعلهم يبتهجون للانحطاط؟ وهل ثمة حجة، حجة واحدة، مهما تكن بسيطة، يمكن أن تفسر المسخرة التي تجعلهم يختالون كالطواويس في عملهم وهم لا يؤدونه إلا مبتوراً وبصورة رديئة؟ وأتساءل أحياناً عن أي جرم حقيقي اقترفوه كي يبدوا بهذا الشكل البريء إلى حد البلاهة.