كتاب " نقد الفكر اليومي " ، تأليف مهدي عامل ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
قراءة كتاب نقد الفكر اليومي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

نقد الفكر اليومي
القسم الثاني
تيار الفكر اللابس وجه الفكر العدمي
تماسك شكلي لفكر يلغي الواقع المادي
من هذه الأشكال ما نحن بصدد نقضه في نقض ذاك الفكر اللابس وجه الفكر العدمي، الطامح إلى تتفيه الوعي اليومي بتحريض له على الاستقالة من السياسة، هو تحريض سياسي مباشر يصب في مجرى الهجوم الايديولوجي المضاد، من قِبَل البورجوازية، من حيث هو يسهم في تحييد ذاك الوعي وتأمين استسلامه للفكر المسيطر. وتتفيه الوعي شرط لاستسلامه هذا، لكنه يستلزم تعطيل هجوم الفكر الثوري وإحباط محاولته أن يرتقي بهذا الوعي اليومي، وفيه، إلى مستوى الوعي التاريخي النافذ في عمق الأحداث إلى عقل الأحداث. فبمقدار ما يتسلح الوعي اليومي بمعرفة هذا العقل، يتحصن ضد الهجوم المضاد الذي يمارسه الفكر المسيطر، فإذا كان منها عاطلاً، سهل استسلامه له. ليس غريباً، إذن، أن يمهد الفكر الرجعي لهجومه السياسي المضاد على الفكر الثوري بهجوم مركّز على العقل العلمي في التاريخ والاقتصاد والسياسة، وفي الفكر أيضاً وأشكال الكتابة، فيشكك فيه، أو يلغيه باسم ما هبَّ ودبّ من ألفاظ تجري في الصفحات اليومية في كل اتجاه ـ كالخصوصية، مثلاً، أو تفاصيل الحياة أو المعاش أو الجزئي أو المصادفة والاحتمال، إلى غير ذلك من ألفاظ تطمح أن تكون لها كرامة المفاهيم الفلسفية ـ ويضرب على الوعي اليومي حصاراً يومياً حتى لا يتسلل إليه العقل العلمي، ولا يدخل فيه من الفكر إلا ما تسمح به مؤسسات الفكر الرجعي الممتدة، في لبنان، من المحيط إلى الخليج. ليس غريباً أيضاً أن ينزلق إلى مواقع هذا الفكر، في التاريخ وفي السياسة، فكر آخر يلغي في التاريخ العقل ـ فيلغي العلم ويلغي إمكان المعرفة ـ في محاولته إثبات أن التاريخ لا معنى له، في هذه الحرب الأهلية التي هي، عنده، «حرب بلا معنى» (20).
نضرب على هذا الفكر مثالاً نجده في مقال بعنوان «منطق الحرب» (21)، يفتتحه صاحبه بهذا السؤال:
«هل يمكن الكلام على منطق الحرب في حرب بدت خارج كل منطق؟» (22)، ويختتمه بحكم يسوقه على الوجه التالي: «بانَ إذن: أن الحرب هي حرب أهلية بالضرورة (...) وأنها لا معنى لها خارج ذاتها، وأنها، بالتالي، لا لزوم لها... فتمّ بذلك البرهان على كونية الحرب اللبنانية، وعلى أنالحرب اللبنانية (...) حرب بلا معنى» (23).
وبين الفاتحة والخاتمة من هذا المقال فضاء من عشرين صفحة تقريباً، يقوم فيه الفكر، في تماسكه الشكلي، على قاعدة إلغاء الواقع المادي. فلنتفحص بعض الشيء مفاصل هذا الفكر، والحركة التي فيها يتولد فراغه، بإلغائه هذا الواقع.
نبدأ بالسؤال الذي ينطلق منه المقال، فنرى أن الحرب فيه ليست واحدة، بل حربان: حرب هي الحرب بالمطلق، خارج كل زمان ومكان؛ وحرب هي الحرب الأهلية التي تجري الآن في لبنان، في شروط تاريخية، داخلية وعربية ودولية محددة. الأولى ليست حرباً، إنها الحرب بلا تحديد. إنها مفهوم مجرد. والثانية ليست الحرب، إنها حرب محددة، أي واقع تاريخي ملموس. موضوع الفكر في هذا المقال هو الثانية، وليس الأولى. أي أن ما يجري عليه الكلام، فعلياً، في هذا المقال هو هذه الحرب الراهنة، وليس الحرب في مفهومها المجرد. هذا ما يؤكده السؤال نفسه، وهذا ما يؤكده سياق المقال بكامله، والحكم الأخير الذي ينتهي إليه. السؤال يطرح مشكلة محددة ينطلق في طرحها من تأكيد حكمين: الحكم الأول ضمني، يتّضح لاحقاً، هو أن للحرب منطقاً، والحكم الثاني صريح، هو أن هذه الحرب، أي الحرب الأهلية في لبنان، «حرب بدت خارج كل منطق». بين الحرب التي لها منطقها، وبين هذه الحرب المحددة التي لا منطق لها، أو التي تبدو بلا منطق، تناقض هو الذي يطرح مشكلة. هل للحرب الراهنة في لبنان منطق؟ وما هو منطقها؟ هذه هي المشكلة.