كتاب " يوم بدأت الكتابة - سردية من سيرة ذاتية " ، تأليف فيصل فرحات ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2008 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
قراءة كتاب يوم بدأت الكتابة - سردية من سيرة ذاتية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
يوم بدأت الكتابة - سردية من سيرة ذاتية
حين نظرت في رغوة الموج، جذبني المشهد، فشردت لبضع ثوان، ونظري ما زال يراقب تحول الرغوة الى ماء. وفكرت هل أقفز وأنا واقف، أو أرجع الى الوراء وأركض قافزاً فوق الدرابزين، كي لا أقع على الصخور حيث تتحول الرغوة الى ماء، بل أقفز الى الماء العميق حيث أغرق ويأكلني البحر وأموت، وما إن استدرت لأخطو خطوة واحدة، حتى رأيت رجلاً آتياً نحوي، فمشيت نحوه، لكن على مسافة، وحاولت أن لا أنظر الى وجهه مسرعَ الخطى، كي أمر بجانبه وبعكسه، وما إن ابتعدت عنه حتى كان هو أيضاً ينظر نحوي متمهلاً في خطواته، يحاول متابعة تحديقه فيَّ، أسرعت أكثر بقليل وفي الوقت نفسه، رغبت في النظر نحوه، أي خلفي، فأبطأت خطواتي واستدرت قليلاً مع توقفي عن الحركة، فإذا بي أراه واقفاً ينظر باتجاهي، فاستدرت وتابعت المشي.
كان الوقت ما بعد منتصف الليل. في الشارع (مقابل أوتيل «مونرو» اليوم) تمر بعض السيارات وقليل من الناس. مشيت نحو بارات الزيتونة، والرجل تابع سيره نحو أوتيل السان جورج. وما إن وصلت الى الرصيف الثاني وخطوت بضع خطوات، حتى توقفت أمام محل تنيره أضواء خافتة، فوقع نظري على رجلٍ جالسٍ على كرسي عالٍ مقابل امرأة ويتكئ بيده على طرف طاولة، ويده الثانية تتحرك ما بين فخذي تلك المرأة، وهي تحاول بيديها الاثنتين إبعاد يده عنها، فيما هو يحني رأسه نحو صدرها، فيضكحها كثيراً!
كانا خلف لوح زجاج كبير، وأنا كنت واقفاً على الرصيف، أدرت وجهي نحو الشارع وعدت واستدرت ثانية نحوهما، وإذ بي أرى فمها مفتوحاً، وتحدق بيَّ وللحظة ركزت عينيها في عينيّ، فخفتُ كثيراً. فحولت نظري الى الرجل، كي لا أرى عينيها المفتوحتين، فإذ به يضحك متابعاً حشر يده ما بين فخذيها، وهي تحاول منعه قليلاً، مشدوهة تحدق بيَّ، وحين عدت ونظرت في عينيها المفتوحتين خفت، وتابعت سيري مسرعاً، بعد بضع خطوات أسرعت أكثر، ومررت ما بين السيارات المتوقفة بجانب الرصيف، وقبل أن أبتعد أكثر توقفت قليلاً، ونظرت نحو الضوء الذي كان علامة ذلك المحل، ثم تابعت السير نحو سوق الخضار (خلف سينما الريفولي) ماراً من أمام محالٍّ بعضها أبوابه مقفلة والبعض الآخر مضاءٌ، يخرج منها ويدخل إليها بضعة رجال، ينزلون من السيارات أو يمشون على الرصيف مثلي.
بدت لي تلك اللحظات وكأنها جديدة وغريبة عني رغم معرفتي بتفاصيل معينة عنها كالأرصفة ومداخل الأبنية والمحال، حتى ولو كان البعض منها مقفلاً في الليل، وذلك لأن ما رأيته منذ قليل لم أفهمه. لا بل أخافني كثيراً بعد أن حيّرني!
في الوقت نفسه، بدا لي ذلك المشهد كأنه حياة ثانية، لا تجري في النهار، أو أني رأيت في الليل نوعاً آخر من الناس على شكل امرأة ورجل يفعلان شيئاً عجيباً غريباً؛ سرعان ما أخذتني صرخة عينيها مُبعدة عني فكرة الانتحار في البحر والنعاس في آن معاً، ما جعلني أمشي من دون هدف، وبدا لي النوم كأنه شيء لا ضرورة له بعد الذي حصل. لذا سرت عدة مرات حول بضعة أماكن في سوق الخضار، الى أن رأيت رجلاً يستعد للخروج من أمام دكانه و«صحاحيره» فخطوت بضع خطوات وعدت فدخلت ما بين «الصحاحير» المجمعة فوق بعضها، ويدخل بعضها في البعض الآخر وحنوت نحو « الصحاحير » الملاصقة للحائط. جلست لأرتاح، ثم دخلت كعادتي ما بين «صحارتين» من الحجم الكبير كانتا مخصصتين للبندورة الجبلية ذات الحبة الكبيرة، واضعاً رأسي في «إحداهما» وسحبت الثانية بيديَّ ليلتصق طرفاهما جنباً الى جنب، فنمت على جنبي ويدي تحت خدي، وشردت.
لم أنم تلك الليلة كما كنت أنام في الليالي السابقة. تقلّبت كثيراً، وأغمضت عينيَّ لحظات طويلة، وسرعان ما كانت صرخة عينيها تمنع عينيّ من الإغماض، وتأخذني الى ضحكتها والى تحديقها فيَّ والى صرختها التي لم أسمعها لكنني رأيتها، وكانت الصرخة أقوى من دون صوت، وهكذا منعت عينيَّ من متابعة رؤية يد ذلك الرجل، وما كان يفعله. صحوت من النوم فتقلبت على ظهري مراراً وعلى جانبي الأيمن فالأيسر، وما إن توقفت عن الحركة حتى وقع نظري على ضوء القمر، فرأيته بشكل مستطيل بحجم الفسحة أو الشقوق ما بين خشبتي «الصحارة» ، فتركت عينيَّ مفتوحتين ناظراً في ضوء القمر الذي أشعرني في تلك اللحظة وكأني على اتصال جاذبي به، وأنني لست وحيداً في هذا العالم، وفي هذه الحياة الثانية التي أعيشها منذ هذه الساعة، بعد أن كنت سأنتحر في البحر، وأبقاني ذلك الرجل حياً؛ ثم أبعدت عني تلك المرأة فكرة الموت نهائياً. فأمعنت النظر في القمر الى أن تبسمت قليلاً، ثم غفوت بعد أن لحست دمعتي ببطء.