أنت هنا

قراءة كتاب جاك درايدا - ما الآن ؟ ماذا عن غد ؟

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
جاك درايدا - ما الآن ؟ ماذا عن غد ؟

جاك درايدا - ما الآن ؟ ماذا عن غد ؟

كتاب " جاك درايدا - ما الآن ؟ ماذا عن غد ؟

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

تقديم

محمد شوقي الزين

بعد الكتاب الجماعي حول المفكر اللبناني علي حرب: علي حرب: النقد، الحقيقة والتأويل (الدار العربية للعلوم ومنشورات الاختلاف، 2010)، نقدّم للقارئ العربي هذا الكتاب الجماعي حول الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا في مباحث متنوّعة تخص مصطلح التفكيك ونقد الميتافيزيقا والتمركز الخطابي، وسؤال الشبحية والعلامة والتأويل، إلى جانب قضايا الحرية والسياسة والعقل وحقوق الإنسان والحيوان. حاولت هذه الدراسات الإلمام بالجوانب المترامية الأطراف لفلسفة دريدا.

يعرج بنا الأستاذ وليد عثماني عبر المبادئ والغايات للفلسفة التفكيكية بالوقوف عند أهم المحطات في التأثير والتأثّر: الألسنية، الأدب، البنيوية، التحليل النفسي، وغيرها من المعارف والمباحث التي أتاحت للتفكيكية بالتشكّل كإمكانية نقدية. ويناقش أهم المصطلحات التي تركّبها والتي نتداولها اليوم بشكل مكثّف: التمركز الصوتي والعقلي، علم الكتابة، الاختلاف، التشتّت وغير ذلك من الأساليب التقنية والنقدية التي برع فيها دريدا. ويختم الكاتب بالتلقّي الأمريكي والعربي للتفكيكية تبعاً لمستويات ثقافية ونظرية خاصّة بكل إقليم جغرافي وتاريخي.

بخصوص التلقّي العربي، يعالج المفكّر الراحل محمد أحمد البنكي غياب مبحث التفكيك وحضوره في الفكر النقدي العربي، ولا شكّ أنّه قام بملء هذا الفراغ من خلال كتابه الواسع والمتبحّر دريدا عربياً: قراءة التفكيك في الفكر النقدي العربي (وزارة الثقافة والإعلام والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، المنامة-بيروت، 2005)، ثمّ البنكي مفكّكا بعناية السيّدة رنده فاروق (وزارة الثقافة والإعلام والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، المنامة-بيروت، 2010). في هذه المقالة المقتضبة والمكثّفة يعود إلى بعض المشاهد العربية في التعامل مع التفكيك، التي يطبعها في الغالب النفور من جرّاء تراجع الابتكار الفكري والجامعي والتحفّظ من كل ما هو جديد على الصعيد النظري. لكن رغم ذلك، كانت هناك محاولات محتشمة وسجال طبع الساحة العربية دخل حلبته جابر عصفور وعبد العزيز حمودة وأحمد عبد الحليم عطية.

ولا شكّ أن العديد من المفكرين العرب وضعوا بصماتهم في التعريف بهذه الإمكانية النقدية وعلى رأسهم المفكّر العراقي الدكتور عبد الله إبراهيم الذي يتحفنا في هذا المقام بدراسة جامعة ونافعة حول التفكيك مركّزا على البعد الخطابي منه، لأنّ الخطاب يقع على تخوم الكلمات والأشياء، أو يتوسّط البُعد اللغوي والبُعد الواقعي ليستقلّ بقوانينه في الإنتاج وتداعياته في المعرفة والسلطة. ويعرج بنا الدكتور إبراهيم على أهمّ المفاهيم التفكيكية للوقوف على حفرياتها الاشتقاقية وقيمها الجينالوجية والنظرية مثل مقولة "الاختلاف"، المقولة الأكثر تداولاً في الثقافة النقدية، والأكثر إشكالاً على صعيد الفهم الفلسفي والاستثمار الأدبي. ويناقش فكرة التمركز حول العقل كعنوان لميتافيزيقا الحضور وسطوة المعنى: وراء هذا النقض الدريدي هناك نقد العقل كأصل خالص وكآلية سلطوية.

من جهته، يقدّم لنا الباحث محمد بكاي قراءة حول أحد المفاهيم الرئيسية في تفكيكية دريدا والأقل دراسة واعتناءً ويتعلّق الأمر بما يسمّى بالشبحية أو الطيفية. إذ عمل دريدا على إيجاد صيغة نظرية في مقاربة النصوص والوقائع. ووقع اختياره على "الطيف" الذي هو "وسط" بين الواقع والمثال، أي لا هو الواقع ولا هو المثال، بل حيّز بينهما. كذلك فكرة الطيف هي كبديل عن المفهوم، فلا يتعامل دريدا مع أفكاره كمفاهيم وإنّما كأطياف "بينية" تحتمل هذه الفكرة وتلك في شكل تناغم أو انسجام. حتى وإن كان استقى دريدا فكرة الشبحية من التكنولوجيات الحديثة (السينما ، الراديو) بحكم أنّها تختزن أصواتاً أو ملامح أشخاص قضوا نحبهم، فإنّ فكرته هي امتداد للفكر العريق الذي كان يجد في الخيال خصباً أدبياً وفلسفياً فيما وراء الواقع والمثال. إذا كان الدرس الفلسفي قائماً على المفهوم والدرس الأدبي على الكلمة، أليس الطيف جمعاً هادئاً وخصباً موعوداً للكلمة والمفهوم، في سياق المبحث الدريدي الذي يجمع بين الأدب والفلسفة؟ هذا ما نستشفّه في هذا النص.

ولعلّ إحدى المحاولات الجادّة عند دريدا هي مقاربته بين الفلسفة والأنماط المعرفية الأخرى مثل التأويل الذي كانت لدريدا به علاقة معقّدة ولكنها مثمرة، بحكم نفوره من كلّ ما يتّسم بجلال في المعنى. يقوم الدكتور عبد الله بريمي بمحاولة رائعة في طرح السؤال التأويلي كمقاربة مع النهج التفكيكي. ويأخذ كمثال في هذه المقاربة أعمال بورس حول العلامة أو "السميوزيس". والإشكال هو معرفة إلى أيّ حدّ تتقاطع فيه أو تتوازى أفكار دريدا مع أفكار بورس. هل هناك أوجه تشابه واختلاف؟ هل تتلاقى إستراتيجية التفكيك واستراتيجية التأويل؟ ربّما الغالب في هاتين الإستراتيجيتين هو الطابع اللانهائي للعلامة التي تتبدّى في جملة التحوّلات والإحالات التي لا تنضب، وتتّخذ هذه التحوّلات شكل تشتّت دلالي أو تناقض تركيبي يطال النصوص والخطابات.

لكن كان لأمبرتو إيكو رأي آخر في المسألة، اعتنى الدكتور عبد الله بريمي بالإشارة إليها وعالجها الدكتور محمد بوعزة بإسهاب في محاولته التي اعتنت أيضاً بسؤال التأويل في مقاربة بين دريدا وإيكو. إذ يلجأ هذا الأخير إلى الربط بين لانهائية التأويل والتفكير الهرمسي الذي يعتبر العالم كنص مفتوح على كل التأويلات الاعتباطية والمترامية الأطراف. فهو يقرّ بالفكرة التي تعتبر أنّ التأويل له قوانين يخضع لها، وأنّ للنص قصدية مفتوحة وجدلية، ويحتمل الحقيقة. يجنّد الدكتور بوعزة قراءة واعية لمختلف التوجّهات النظرية التي تعاملت مع التأويل من زوايا مختلفة: الزاوية التفكيكية التي تضفي على الحقيقة نوعاً من النسبية، والزاوية التأويلية التي تضفي على النص دلالة تترجّح بين الأحادية بالنسبة إلى سياق النص، والتعددية بالمقارنة بالتفسيرات أو القراءات التي تتمتع هي الأخرى بسياقات مختلفة أو مقامات مغايرة.

وفي المنظار نفسه، تقوم الباحثة سعاد حمداش بقراءة نص دريدا «التوقيع، الحدث، السياق» الذي يطرح إشكاليات كانت في أوج السجال مع أنداد عصره ومن جملتها مسألة العلامة والتواصل. يطرح دريدا هذه المسائل في إطار قراءة تاريخية لأنظمة التواصل مع الوقوف على بعض النماذج مثل كوندياك. المبتغى هو النظر في السلوك التاريخي للكتابة والأشكال التي اتّخذتها العلامة في انتقالها من منغلقها الصوتي (العصر الإغريقي، الكتابات المقدّسة) إلى منفتحها الحداثي (اختراع المطبعة)، ثم في انعطافها المتعالي (ديكارت وهوسيرل) والتداولي (أوستين).

في سياق آخر يخص هذه المرّة أفكار دريدا في السياسة والحقوق، نجد قراءة الدكتور أحمد عبد الحليم عطية في الكتاب الذي اشترك دريدا في تدوينه مع إليزابيث رودينيسكو. يتعلّق الأمر بطرح جملة من القضايا تخصّ الإنسان المعاصر وذات علاقة بالسياسة والاجتماع والنفس والقيمة والوجود؛ وتخص أيضاً الحقوق البشرية (الإنسان، المرأة، الطفل، الأقليات الدينية والعرقية والجنسية) والحقوق الحيوانية والحقوق الطبيعية (البيئة). ويضع في صلب هذه الحقوق مسألة الواجب، أي السؤال الأخلاقي الذي طالما استرعى انتباهه، والذي يتعدّى دواعي الأمر والنهي، نحو سؤال الحرية والمسؤولية. ويرى الدكتور عطية أنّ دريدا طرح هذه المشكلات المعاصرة من وجهة نظر الفيلسوف وليس السياسي، وبالتالي يبقى النضال من أجل الحقوق في نطاق التداول الفكري أو العرض النظري ما دامت القرارات هي من اختصاص التمثيل السياسي والديمقراطي.

ويطرح الأستاذ رشيد بوطيب علاقة دريدا بلفيناس التي هي بمثابة علمنة دريدية للإرث الديني الليفيناسي. والسياسة عند دريدا هي امتداد للأخلاق عند لفيناس، تلك الأخلاق التي انحصرت في نقد مفهوم الحرية الذي يتعدّى الانهمام بالذات نحو الاهتمام بالآخر. إذ يتمّ الكشف عن عنصر الحرية في ظلّ الغيرية، أي في ظلّ المسؤولية. فلا يمكن التفكير أو الأداء إلّا في ظل وجود الآخر ليس كفكرة أو موضوع بل كمسؤولية، وهذه الغيرية هي سابقة على الحرية وهي لها بمثابة الأصل أو العين. يضع لفيناس كذلك الحقيقة في صلب الصراع لأنّ الحقيقة تعني أساساً القبض على شيء نعتبره حقيقياً وننافح عنه بالقوّة والعنف. لذا كاتت العلاقة بين الحرية والغيرية علاقة إلغاء للحقيقة كتسلّط. وهذه الفكرة ستؤسّس صلب الفلسفة الدريدية التي بدورها ستعمل على تقويض الحقيقة كسلطة عقلية ودلالية وسياسية تتجسّد في المؤسسات والمنظومات، أو في الأحكام والأعراف، أو في "التمركزات" المختلفة التي عالجها في عدّة مواطن المفكّر عبد الله إبراهيم.

وهو الأمر الذي وقفنا عليه في علاقة العقل بالسياسة ومعرفة درجة هذه العلاقة التي اكتنفها في التاريخ التواطؤ، إلى درجة أصبح معها العقل أداة أو آلية في القهر كما ذهب إلى ذلك أدورنو وهوركايمر. يلج دريدا صلب العقل الذي وإن كان يحمل غوايته في تاريخه، فإنّه لا انفكاك عنه في التفكير في المستقبل كأمر آتٍ؛ ولكن أيضاً كأمر آني في ارتحاله واختلافه، أي الحاضر في انفتاحه على المستقبل. يقف دريدا على العقل ليرى تجلّياته السياسية، وعوده، مخاطره، مجازفاته، انتصاراته، إخفاقاته. ويقف على وجه الخصوص على حدث الديمقراطية في العهد الإغريقي واستعمالاتها اللاحقة في الثقافة الرومانية ثم في الحضارة الغربية، تلك الديمقراطية التي تستند إلى العقل ولكن قد يغويها أيضا المكر العقلي تبعاً لما كان يسميه هيغل "حيلة العقل". هناك نوع من المقاومة في كل عقل سياسي، وفي كل سياسة عقلية، لأنّ العقل كما الديمقراطية مبنيان على "الدوران" (الاستدارة، الحوار، التحاور، إلخ)، وفي الدوران تتبدّى قيم التحوّل والمداولة وتداول السلطة؛ ولكن أيضاً إمكانية التيه والحيرة. وهي قيم تاريخية ونقدية عالجها دريدا بلغة نقدية في منتهى الإحكام والحصافة، وقد آثرنا متابعة أثرها والبناء عليها بشكل مختلف لا ينفكّ عن الإحالة والتحوّل.

في هذا الكتاب محطّات ثائرة ومثيرة حول أعقد الفلسفات المعاصرة وأروعها، من حيث القوّة البلاغية والمعالجة النظرية والكفاءة التقنية التي تحلّى بها دريدا، ليس في قراءة نص وتاريخ فحسب وإنّما أيضاً في ربط الزمن بالمكان، والحاضر بالمستقبل، والعقل بالسياسة، والأدب بالفلسفة، واللغة بالواقع، والإنسان بالمصير، والألم بالأمل.

الصفحات