أنت هنا

قراءة كتاب تقلبات رجل موسمي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تقلبات رجل موسمي

تقلبات رجل موسمي

رواية "تقلبات رجل موسمي"، نقرأ منها:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 4

كان لانقطاع الحوارات المفاجئة بين الفينة والفينة، أثره الأقوى في كليهما على ما تحتوي من أحاديث، هي كأي كلام، يستعمله الناس في العادة للاحتجاب وراءه، أو بالأحرى لإخفاء ما لا يريدون التصريح به، حتّى إذا ما لفّ الصمت أرجاء الغرفة وهما جالسان متقابلين، يعود ويُصاب بتوتّر واضح لا على ما يظهر من احمرار وجنتيه، وإنما على ما يتفوه به من تفاهات متكلّفة لا تنفع مطلقاً حاجته الماسّة للخروج من هذا المأزق، بانسيابية رجل مقتدر وممسك بزمام الأمور. فلا تعليقاته الساخرة على عتق سرواله الداخلي تفيد مأربه في تلك اللحظة، ولا التبخيس من استعظامها لمسألتيهما ينفع. والمواقف الهزلية التي أخذ يستجديها باللعب على ما تحمله بعض الكلمات من معانٍ مغايرة، كانت ترتد عليه سلباً، لأن لا داعي لها. إلى أن وصل به الأمر لكسر الصمت، إلى أن يتخذ من قياس حذائه الأسود الطويل مثاراً للقهقهة. أُصيبت باشمئزاز ذي مفعول رجعي ازداد عندما أحسّت بأنها قبالة رجل إمّا إنه حمار، وإما فَهِمَ ولكن أراد التذاكي عليها عبر مداهنات لا تُطاق، راهن فيها، وهذا الأنكى بالنسبة إليها، على أن تجنح إلى مسايرته لتحويل الجدية المفرطة إلى مُزاح لطيف.ـ
فجأة تبدّلت ملامحها وانفرجت أساريرها على نحو يُنذر باتخاذها قراراً قاطعاً، بعدما أعيت نفسها واستنفدت الحيل النسائية كافة لاستيضاح كنه مبتغاه، فلم تحصل منه إلّا على تمتمات فضفاضة، مرّرتها في أكثر اللحظات الملائمة لاعتراف أعتى الرهبان بحب امرأة وهو في فراشها. حتّى في السرير أخفقت رنا في الاستحصال ولو على مجرّد كلمة غزل عفوي، تستشعر بها أمان رجوعه إليها مرةً ثانية.ـ
بقي لها إذاً أن تتأنّى في اختيار زمان ومكان جلسة مباغتة وصاخبة، علّها تخرجه عن طوره، فتستوضح حقيقة نياته حيال علاقة أحسّت بالوهن ينخرها، عقب بداية متوقّدة في مشاعرهما. نظراً إلى مذاق غربة كليهما عن الآخر، فشعلة الحب تتوقد بشغف الغرابة واختلاف العاشق عن المعشوق، حتّى إذا ما تآلف المحبّ واعتاد وجه محبوبه في الصبح والمساء، وفي المطبخ والفراش، حفظ ساعة تأخّره ولحظة قدومه، وخبر ردة فعله عند غضبه وفي فرحه. يكونان قد تعريا من علّة لهفتهما، فتذوي حماستهما ويدخلان متاهة الرتابة الرهيبة، إنها اللعبة نفسها تتكرّر في حكاية كل عاشق.ـ
عقدت رنا العزم إذاً على إنهاء القضيّة بأسلوبها هي، بعد أنْ خبرت من خلال تجربتها حتمية المؤدى السلبي لكل تأجيل في قضية، للوقت فيها دور حاسم، فكان عليها أن تستخدم آخر ما للأنثى مِنْ دهاء فطري، لتنتصر فيخضع، أو أن تُهزم فيرحل. عندئذٍ قرّرت أنّ استفزازه وإثارة حنقه هو السبيل الأمثل لإخراجه مِنْ ثوب لياقته الكاذبة، فسألته بلهجة متعجرفة وفوقية: «كم عمرك، أما زلت تلتذ بألعاب الصغار؟ على كل حال لا يهمني وأردفت: «بصراحة أنا تجاوزت هذه المرحلة مع الأسف، فلم تعد تغويني التسلية بمشاعر الآخرين، ولا شيء يضاهي توقي إلى الاستقرار وتكوين عائلة وولادة أطفال، ككل الناس لئلا أندم بعد فوات الأوان. أفهمت»؟
بدا لرنا كما لو أنها نجحت في النيل من حساسيته المفرطة حيال كل كلام فوقي، فكيف إذا صدر عنها هي بالذات، فعلاقته بها على ما يذكر بدأت بلقاء تعارف عابر، أجابت خلاله بعجرفة عن سؤاله عما إذا كانت مسيحية بالقول: نعم أنا كاثوليكية تربيت كغيري على أننا مختلفون عنكم. فأنتم تنجبون أطفالاً كثراً، أمّا نحن فلا، نحن نظيفون ومرتّبون ولا نتلفّظ بكلمات بذيئة، أما أنتم فتهتمّون ببطونكم، ولا تعتنون بثيابكم ولا بنظافة بيوتكم.ـ
شعر سالم بإهانة أغضبته، فلا هو بمثل هذه الخسّة التي تشحن المرء بالقدرة على اتخاذ قرار حاسم، لا رجعة فيه، ولا هي يحقّ لها في الأصل أنْ تحشره في الزاوية هكذا، لإرغامه على الاستجابة لما ليس جاهزاً له. لقد أخفق عبر أكثر من سبيل في إرجاء الخوض بهذه القضية الحسّاسة، فلم يستطع كبح جماح اندفاعها العصبي نحوه، لا بالمراوغة ولا بالتحايل، كي يُرجئ بتّ موضوع، يجب ألّا يُفتح، لأنّه لم يحن أوان إقفاله بالنسبة إليه. لكن الغريب أنه بعد ذلك، أحسّ بالتحرّر من الارتباك الذي كان قد شل عقله وكبّله طوال مدّة استنطاقها إياه. فلم يقم بردّة فعل على الرغم من أنّ الاستياء كان بادياً على وجهه الصامت بما لا يشبه صمته هو نفسه قبل دقائق معدودة، فطبع سالم الحاد وهو صغير، روّضه في الكِبَر بالصمت والكتمان، بعد أن أدرك أنّ من شأن انفعال الشخص عند الشدائد أنْ يدفعه إلى التهوّر إما بافتضاح مكنونات ذاته التي تضمر ربما عدوانية وأنانية لا تحتملان، وإما بإشهار كره أو حب، بُغْضٍ أو انخطاف تفرض عليه مترتبات أو عواقب ليس بمقدوره أنْ يتحمّلها. لهذا كان في أوج لحظات انفعاله العاطفي يمتنع عن الكلام، كي لا يتهور بالنطق بما يعرف أنه سيرتدّ عليه بالضرر، عندما تهدأ حمأة حماسته لها في السرير أو في البريّة، تقصّدت استفزازه لاستنباش خبايا نياته حيال علاقة لم تعد تهتم لا بحلوها ولا مرّها، ولا بما إذا كانت تسليها، فتلهيها عمّا لم تعد تريد تأجيله. فهي تريد الاستقرار والاطمئنان إلى حياتها مع زوج يجعلها أماً لطفل، مع أنها صارت متخوّفة من أنْ يخذلها جسدها في الولادة وهي في الخامسة والثلاثين من العمر.

الصفحات