رواية "تقلبات رجل موسمي"، نقرأ منها:
أنت هنا
قراءة كتاب تقلبات رجل موسمي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

تقلبات رجل موسمي
أدار محرّك سيارته وانطلق إلى حيث راحت تتجاذبه ثلاثة اتجاهات متعاكسة، تجمع ما بينها رغبة في أنْ يجد ملاذاً مريحاً يرمي فيه تعب وظيفة شاقة. فالتدريس عنده لا يُطاق. حبس والتزام يجبرانه على أن يثرثر بأشياء بديهية في الوقت الذي تستبدّ به رغبة عارمة في الصمت والتأمل، لكي يشرد إلى حيث لا أفق يحدّ من فوضى ترحاله إلى ما يشاء، ولا التزام يعكر صفاء مشواره الشاعري إلى حيث التفلّت التام من انتظام الغباء المدرسي لدى الأساتذة والطلاب على السواء.ـ
لم يكد أنْ يحسم أمر وجهته حتّى عاد وعدل عنها لحظة تمثل الوضعية الصعبة التي سيعاني كربها، ما إنْ يجلس على الأريكة حتى تبدأ كعادتها بالشكوى والتذمرّ من خيانة زوجها الذي لم تعد تهمّه غيرتها عليه، والأنكى أنه بعد مدّة أفضى إليها الزوج باعتراف صادم حطم مشاعرها، عندما قال: اسمعيني بصراحة، تعجبني الآنسة هيام، لا ألتقيها إلّا مصادفة لأنّ دوام تدريسها، ويا للأسف، لا يتفق مع دوام تدريسي، لكنني لا أريد أنْ أكذب عليكِ، صرت متيّماً بها، والقرار لك. وخرج.!ـ
استعاد في ذهنه وضعية جلوسه قبالة فاطمة وهو يستمع إلى غمّها وخيبتها بزوج خذلها ولم يقدّر حبها له، ولأن سالم صديقه الأقرب، فإذا كان لا يستطيع أنْ يلعب دوراً في تجسير ما انقطع في علاقتهما التي لا أمل فيها، لكنه قادر على أن يتعاطف معها بالتجهّم وانقباض ملامح وجهه، كي يشاركها في سخطها على هذا الصنف من الرجال. ولأنّ مزاجه في تلك اللحظة لم يكن مهيأً للنقّ، قرّر الذهاب إلى بيته، كي يحتسي صحن شوربة عدس ساخن، انشغل بطهوها ليلة البارحة، قائلاً لسوف ألقي بجسدي على السرير وأغطّ في قيلولة لطيفة، فيهدأ توتري وأبدأ من جديد. لكنّ حماسته خفتت حالما أحسّ بالصقيع الذي ينتظره هناك في شقة استأجرها في بناية رابضة وحدها على أعلى تلّة صخرية، حيث لا يتناهى إلى مسامع سكانها القليلين إلّا صوت صمت ثقيل يشي بالخوف من الوحدة مع هذا اللاشيء الرهيب. مع أن اختيار سالم مسكنه النائي جاء نتيجة ردّة فعل على معاناته من الضجيج في بيت كان قد استأجره بمحاذاة طريق لا تخلو من هدير محركات السيارات ليل نهار، فولّدت عنده حاجة ماسة للابتعاد عن العالم، امتثالاً لرغبة جامحة عنده لكي يختلي بنفسه مع كتاب فلسفي، أو امرأة. فهما سيان عند شخص يعمد قبل القراءة إلى ممارسة الطقوس نفسها التي جعلت نساءه يتوجّسن من أن يكون قد مسّ في عقله، عندما يقطع عليها وعلى نفسه حبل إثارتهما في السرير من خلال حركات غير مفهومة أدّت غير مرّة إلى أن ترتدي المرأة ثيابها وترحل عازمة على أن لا تلتقيه مرّةً ثانية. وهو كالجمل الذي ما إنْ يستشعر نظرة شخص يراقبه أثناء سفاده للناقة حتى يتراجع كما لو أنّ سهماً جليدياً أصاب عضوه حيث كان لا يستطيع أنْ يكتب جملة مفيدة، ولا حتّى أنْ يقرأ فقرة سهلة. إنْ أحسّ بحضور شخص إلى جواره.ـ
كان لمنظر البحر المنبسط أمامه من بعيد ما يبعث على السكينة والصفاء التامين. فتأمل غروب الشمس وهي تطمس قرصها البرتقالي خلف ازرقاق الأفق، سلب عقله، قبل أنْ يتحوّل هذا المشهد إلى جزء من كينونة ضجره من بيت بارد إلى حدّ أنْ بات لا يفهم انبهار الزائرين بما تعوّد رؤيته صباحاً ومساءً ليصير كمثل من تزوّج امرأة جميلة، ما لبث بعد مدّة أن اعتاد حضورها، فألف وجهها، ولم يعد قادراً على أن يرى منها... ما يراه الآخرون فيها.ـ
بقي له أنْ يخفّ نحو ما كان يسرع إليه عندما يُصاب بالتعب، أو حينما يستشعر غصّة قلق من مناخ خريفي يلبّد مشاعره بغيوم سوداء تنذر بعاصفة كآبة موسمية، تصيبه عادةً بداء وجودي اعتل به نتيجة أشياء ليس لصاحبها القدرة على أنْ يدرك كنهها أبداً. ففي هذه الأحوال كان يذهب إلى صديقه الأقرب نسيم، الذي كان يشكو هو أيضاً اضطراباً ناجماً عن تحسّسه المفرط لآلام الآخرين وعذاباتهم. كان هو ملاذه ساعة يحتاج إلى من يسمعه بتفهم إنسان ليست إطراءاته للمجاملة وليس نقده للذمّ والشماتة. كان هو ملجأه ساعة الشدة ما أنْ يلتمس في نفسه ضغطاً يحتاج إلى الفضفضة عن عيب أو زلّة أو فشل أو مِنْ «جرصة». عرّضته لتوبيخ شخص أمام الملأ... بقي مرّة ثلاثة أيام يتألم من إخفائه وخز نظرات أحد مراقبي المحال التجارية وهو يطلب إليه العودة فوراً إلى الصندوق لدفع ثمن علبة سجائر مارلبورو في جيبه إلى أن حوّل بعدها الأمر إلى مادة للسخرية من قيمة هذه السخافات حيال هول الموت وعظمة الخلق و.. و.. وذلك كي يُخفف من كرب حادثة كادت أن تخنقه لو لم يبح بها إلى صديقه نسيم، على أمل أن يتطهر من كتمانه لسرّ ألم البوح به أخف بكثير مِنْ ألم إخفائه، وإن ترتب عليه توبيخ صديقه الأرحم من عذابات تقريع الذات لنفسها. قرّر هذه المرّة أن يذهب إليه ليشاركه في الفرحة بما أحسّ به لحظة رآها. وقرّر أن يدعوه إلى حيث دأب الاثنان على ارتياد ربوَة مطلّة من على كتف واد سحيق فوق نهر «السيبانة» لكي يحتسيا البيرة، بما يجعل من الحديث بأي أمر حميمي أجمل وأخفّ وأكثر صراحة مِنْ رقابة الأنا لنفسها، هذا قبل أنْ يفرغ في بطنه خمس قناني «ألماسة» حيث كانا يجدان راحتيهما بعيداً عن عيون الناس ومسامعهم لأنهم لن يقبلوا جحوداً حرّم معاقرة الخمرة والزنى، فمنع كل اللذائذ التي تتغذى بها النفوس المتألمة من عدم رومانسية هذا العالم البشع، الممتلئ بممنوعات ومحرّمات تبعث على الهزء من حرية إنسان، يتكبل عقله إرادة، لا تقاس بحريّة الحيوانات التي لا عقل لها ولا إرادة.ـ
أخبره سالم بما رآه. وراح يفضي إليه بأسلوب شاعري صادم ما أحسّ به لحظة نظر إلى عيني فتاة، لا تشبه أياً منهن في العالم كلّه. وقال: أشعر أنني امتلأت بفرحة تخولني أن أطير فوق هذا الوادي بخفة ذاك الطائر وأشار بإصبعه إلى ناحية شحرور صودف مروره من فوق رأسيهما. أشعر ببهجة من النوع الذي يُصاب أثناءها المرء بحالة تمتزج فيها الخفّة والانشراح والامتلاء والرضى فتصير من العجينة التي تستشعر عندها الرابط ما بين الخبل والغبطة من صلة عضوية، لن تكتنه سرّها ما لم ترَ عيني هذه المخلوقة الرائعة، وأردف يصف له كيف غمرته بأحاسيس لم يسبق أن شعر بمثلها. قائلاً: «حسبت نفسي كما لو أنني كنت إنساناً مؤجلاً إلى تلك اللحظة وأُقسم لك إنني كنت كمن يبحث عنها هي بالذات. إنها مقدّرة لي حتى ولو وُلِدت في الصين. لا تبتسم هكذا بخبث. أتحسبني خرّفت؟ إنني على يقين تام يا نسيم بأنني كنت سأجدها ولو كانت تعيش على كوكب آخر، كما لو أنّ ثمة قوّة خفية، وليست المصادفة ما يجمع قلبي عاشقين متيمين». كان نسيم يستمع إلى صديقه بشغف ثأري، وكاد ألّا يصدق ما تسمعه أذناه من كلام. كان يستهزئ به سالم نفسه إنْ نطق به لسان عاشق ولهان. حتّى إنه كان يزدري كل من يهيم عشقاً بامرأة، يوجد على شاكلتها الملايين بحسب قاموس ألفاظه الساخرة. كان صديقه مصدوماً بتحوله العاصف خلال ساعات إلى شاعر وهو يصف جمالها، على عكس ما كان يدعيه من نفور من الشعر على اعتبار أنه لسان حال الناس العاجزين عن التعبير المباشر والصريح فيلجأون إلى الاستعارات الميتة والمجازات القابلة للتأويل والتفسير الأنوي غير المفهوم، إلّا للشاعر وحده. هكذا يستغل بعض الشعراء خوفهم من التصريح بما لا يستطيعون الاحتفاظ به، فيتلفظون بلغة مخصية تجعلهم يلتذون بكونهم ضحايا عدم فهم الناس لهم. قاطعه (نسيم) بالسؤال عمّا إذا كانت تبادله الشعور والاهتمام نفسهما. لم يجبه. لأنّه كان تائهاً مشتتاً وهو شارد بموصوفته التي استحالت من شدّة هيامه بما لم يعرف له سبباً، كائناً قدرياً غريباً. لكن ما إن أعاد طرح السؤال عليه، حتّى أجابه بلا مبالاة قائلاً:ـ