أنت هنا

قراءة كتاب ذاكرة الأوراق الآثمة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
ذاكرة الأوراق الآثمة

ذاكرة الأوراق الآثمة

الأوراق الآثمة، ذاكرة ارتمت أحداثها فوق صفحات وطن اسمه لبنان، وتوزعت على بيدر الحياة فيه محاصيل لأرواحٍ التحفت مآسي الحرب وتدثّرت بعناوين القتل والموت واليتم، وغرفت من سواقي الهجرة المالحة دموعاً صاخبة تبكي الأم والأب والوطن.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

ذاكرة الأوراق الآثمة

كان رذاذ الزمن يتساقط فوق عقارب الساعة التي تزيّن مِعْصَم يدها ببطء، يتماهى مع خطواتها أثناء اجتيازِها لشوارعَ الحيّ الذي تقطن فيه. أو كما تحب هي أن تسمّيها دائماً بالأزقة. كان مركب سيرها يتجه نحو الشارع العام قاصداً مقرّ الجمعية الكائن في وسط المدينة حيث كانت تعمل: إنها الثامنة إلا ربعاً.
لم تكن زينة قد حملت ساعة يدها ولا نظرت إليها حتى، منذ عشرة أيام خلت، أي طيلة فترة الإجازة المَرَضية التي قضتها في المنزل ترتاح من عناء عملية جراحية في ذقنها استأصلت فيها ورماً كان قد أقلق راحتها منذ ما يناهز الشهرين، وذلك لاعتبار وحيد ألا وهو: الزمن. هذا المصطلح الهش كان بالنسبة إليها متوحداً مع ضرورة تناولها الأدوية المضادة للالتهاب بعد الطعام مباشرة، وفقط كلما أحست بأنياب الجوع تنهش معدتها.
هي متمردة على إرشادات الطبيب وتوصياته، خصوصاً في ما يتعلق بوضعية النوم داخل السرير: «النوم بطريقة الاستلقاء على الظهر! فلا تتقلّبي كثيراً؛ لأن الجرح ما زال حديثاً وقد يفتح مجدداً» بينما كان جوابها على الدوام ابتسامة ماكرة تبدو عليها علامات الهُزء والاستخفاف.
كانت توجيهات الطبيب بالنسبة إليها أكثر إزعاجاً من السير في أزقة هذا الحي الذي انتقلت للعيش فيه منذ بضعة أشهر، على الرغم من طرقاته الضيقة التي هي أشبه ما تكون بأقنية للصرف الصحي. إذ تتناثر فيها رُقَعُ اليابسة، فلا يمكن اجتيازها إلّا بوثبة (شاطر)، دون أن تخلو في أحيان كثيرة من التبلُّل، وليس لك إلّا أن تسلّم بقدر الغرق في أحواضها العكرة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى أسطح المنازل؛ إذ إنّها متلاصقة كأنها في حالة عشق دائم لفضول سرقة أسرار من يعيش تحتها، والاشتراك في أصوات حيواتهم الخاصة، بينما تتمايل حبال الغسيل على هيئة مَعرضٍ دائم لثياب تزيِّن الشوارع بألوان لا تختلف كثيراً عن شعارات سياسية ورايات حزبية موزعة هنا وهناك.
كلام الطبيب له صفة الإلزام. تبعات تجاوُزِه آنية لا يمكن الهروب منها ولا إغفالها. أما هذا الحيّ المسمى بــــ(الجناح) فليس هناك أسهل من تخدير النفس في حال انتابتها موجات من الضيق بل إذا ما تآكلتها مساحة الروح داخل الجسد بفعل ازدحام أزقته. فالنوم أو إدمان العمل، كلاهما كان بالنسبة إلى زينة ابتعاداً عن حُفر المستنقعات التي تنقر وجه الطرقات المرقعة بإسفلت نافر، أو بإسمنت قد رُصف بفوضوية فزاد من بشاعتها.
وصلت زينة أخيراً إلى زاوية الطريق العام. فوقفت تنتظر سيارة أجرة لكي تقلّها إلى عملها في اليوم الأول بعد الإجازة. وكانت قد اجتازت منعطفاتٍ ثلاثة غير عابئة بمنظر أسلاك الكهرباء المتشابكة في فضاءات الشوارع الضيقة والتي تكاد تحجُب نور السماء عن ذلك الحيّ البائس، وغير آبهةٍ كذلك لألوان الجدران غير المتناسقة فيما بينها. إنما الشيء الوحيد الذي لفتها في ذلك الصباح خلال مَسِيرها نحو الشارع العام، كان رائحة الهواء الذي حسبته منفلتاً من داخل البيوت المتخمة بأرواح ساكنيها المتمردة على كآبة المكان والزمان.
«للهواء في الأحياء الفقيرة رائحة ساخنة تعيد إلى الأذهان مشاهد المعتقلات وغرف التعذيب التي تُعرض في الأفلام وتفتح الذاكرة أيضاً على أقبية السجون والحصون المذكورة في كتب التاريخ وفي أساطير القرون الوسطى».
استيقظت زينة في ذلك اليوم على وَقْع رنّات هاتفها الجوّال، الذي يتحول في بعض أوجه استعمالاته إلى مُنبّه. لكنها وقبل أن تفتح غطاء عينيها وتطلق خيوط بصرها خلف موجودات الغرفة، تذكرت أمرين اثنين وَرَدا على شاشة وعيها بالتزامن: ذقنها وسقف الغرفة. لذلك كان لا بد لها في بداية الأمر من أن تتحسس ذقنها المتعافي حديثاً من قُبلات المِبْضع الجارحة. فمرّرَتْ أنامل يدها اليمنى فوقه وكأنها تطمئن إلى أن حقل القطب الذي حصد الطبيب أثلامه باحتراف مهني لافت ما زال موجوداً في مكانه: «لموضع الجرح مذاق خاص تصل نكهته إلى أسفل اللسان، فلا يكف عن العبث به مُحاولاً اكتشاف تجويفاته وتعرُّجاته داخل الفك السُّفلي بفضول لا ينتهي سوى بالنعاس».

الصفحات