أنت هنا

قراءة كتاب زوال كولونيل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
زوال كولونيل

زوال كولونيل

ربما كانت العشرين من بقايا السجائر التي يطفئها منذ بداية الليل إلى الآن. أحس بالاختناق وأن لسانه وفمه من كثرة السجائر التي دخنها يفقدان حس الذوق فيهما. أنظر كم من الماء على الوجه الزجاجي للنافذة. وأي صمت!

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 5

لا، لا يجِبُ أن أتعجَّب. لا يجِبُ أن يظهَرَ منّي سوءُ خلق. أنا... أسعى منذُ مُدّةٍ طويلةٍ لِئلاّ أخرُجَ من الإقليم، وأعملُ بكُلِّ وسيلةٍ لِحِفظِ هدوءِ نفسي. وفوق ذلك فأنا منذُ مُدّةٍ أسعى لئلا أندهِشَ من رؤيةِ أيَّةِ واقِعةٍ أو سماعِ أيِّ خبر... لا يجبُ أن أندهش. لماذا؟ إنَّ الإنسانَ إذا اندهشَ من واقِعةٍ ألمَّت بِهِ فإنَّها ستظلُّ جديدةً عليه، وأنا يجبُ أن أقبلَ أنَّ إحساسي مُرتبطٌ بِشيء، بحالةٍ وموضوعٍ من الماضي، بِشيءٍ ليسَ لهُ ارتباطٌ بِحالِنا الحاضِر. رُبّما يرتبِطُ بعملي في جيشِ الشَّاه، أو رُبَّما بِذهابِ الصَّغيرِ إلى الجبهة... أو رُبَّما بواقِعةِ زوجتي؟ و... بروانة؟ لا أعلم. آلافُ الأشياءِ يُمكِنُ أن تكون. لكن... لكن... فقط قلبي يرتجف وليست يدي. اِرتجِفْ أكثرْ، ماذا أعمل! أنا الَّذي لا أستطيعُ أن أفتحَ القِفلَ على بابِ غُرفتي وأهبِطَ الدَّرَج. أخيراً أنا مُضطرٌّ لأن أقوم بهذا العمل. أفتحُه. حقّاً، من حُسنِ الحظِّ أنَّني لم أنزعْ قُبَّعتي. هي على رأسي. وهكذا ولحصولِ الاطمئنانِ بوجودِها أرفعُ يدي وألمسُها على رأسي، وفي الحالِ عينِها فإنَّ حواسّيَ تُثْمِرُ إلى المِقدارِ الّذي يجعلُني أعرِفُ أنَّهُ يجِبُ عليَّ أن أرفَعَ ياقَةَ معطفي إلى الأعلى، حتّى لا تعبُرَ تحتها قطراتُ سلاسِلِ المطر. إنَّ خاطِراً خَطَرَ لي في سرّي، هو أن أقومَ بِسُلوكٍ ما حتّى لا يلتِفِتَ هذانِ الشَّابّانِ إلى وجودِ أمير في قبوِ المنزل. ما منْ سبيل، فقد كنتُ أُحِسُّ إحساساً مُبهَماً بِأنَّ سُلوكَ أمير الَّذي كان مُنزوياً بِنفسِهِ في القبو مُنذُ أكثَرَ من عامٍ، يُمكِنُ أن يُثيرَ الشَّكَّ والشُّبهَة، ويُمكنُ أن يُحرِّكَ البحثَ والتَّحرّي إلى درجةِ أنَّ هذا العمل سينتهي إلى الشّكّ. حيثُ أنَّ العقلَ يحكُمُ على الظّاهر، ولا يوجَدُ دليلٌ عقليٌّ على أنَّ هذا السَّجينَ السّابِقَ ينزوي بِنفسِهِ بِبراءةٍ في قبوِ منزلِ والِده، بل حتّى يُمكِنُ القولُ إنَّهُ يحبِسُ نفسَه، وكان يحترِزُ من الحديثِ إلى الحدِّ المُمكنِ حتّى إلى أقربِ الأشخاصِ إليه. طبيعيٌّ أنَّ مثلَ هذا السُّلوك من مِثلِ هذا الشّخصِ يبعثُ على سوءِ الظَّنّ، والأفرادُ سيدفعونَ المسؤولينَ للقيامِ بالتَّحقيقِ والتَّحرّي. أمير في الواقِع ليسَ مجنوناً ولا يُسلِمُ فِكرَهُ لِطريقٍ واحِد. أنا نفسي سمِعتُ مراراً الصَّوتَ والحديثَ بينهُ وبينَ أُختِهِ فرزانة، وفرزانةُ اعتادت أن تُكثِرَ الكلامَ لِتُعبِّرَ عن المشاعِرِ الأخويّةِ بِتِكرارِ الكلمات، وبِما أنَّ عُمرَها قريبٌ من عُمرِ أمير، فقد كانَ يحصَلُ أحياناً المجالُ ليجلِسا على حافَّةِ دَرَجِ القبوِ، وتثيرُ غُصَصَهُ بالحديث.
لماذا أنت جالِسٌ تحسِبُ النُّجوم أخي حبيبي؟ ماذا سيكونُ غيرَ أنَّ الدُّنيا ستنتهي؟ لستَ وحدَكَ المظلوم، كثيرونَ مثلكَ صاروا بلا عَمَل. ليسَ صحيحاً أن يجلِسَ المرءُ في الزَّاويةِ ويستهلِكَ نفسَهُ بالنَّشيج. ماذا حدثَ يا أمير يا روحي يا أخي يا حبيبي! فكِّرْ قليلاً بِأبيك. إنَّ أبانا صارَ هَرِماً بعدَ خبرِ محمد تقي. أنت يجبُ أن لا تُسبِّبَ لهُ الموتَ انكِساراً. أبي أصابَهُ كثيرٌ من الألَمِ هذا الزَّمان، أنت تعرِفُ ذلكَ أكثرَ منّي. حتّى لو لم تكن الأخَ الأكبَرَ في الأسرةِ لكانَ يجِبُ عليكَ التَّفكيرَ أكثَرَ بالأُسرة. بنا. أنا امرأة، ليسَ أمري بيدي. أنتَ الَّذي تعرِف، زوجي هو السَّيِّد قُرباني. إنَّهُ يمنعُني من المجيءِ إلى هذهِ الأماكِن. ابني هو الآخَرُ لا فَهْمَ له، وأبوهُ يستنطِقُه؛ وبِنتي أيضاً. وطفلٌ صغيرٌ يحبو. قرباني حجّاج يُسيءُ الظَّنَّ بكُلِّ شيءٍ ويخاف، لِدَرَجَةِ أنَّهُ يُمسِكُ ولدي ويستجوِبُه، والولدُ الصَّغيرُ لا يستطيعُ أن يُمسِكَ لِسانَه، وفي النِّهايةِ يتكلَّم. إنَّهُ طِفل، ليسَ عاقِلاً. أمَّا قلبي فليسَ بعيداً عنك، ثيابي تشتعِلُ بِجَسَدي. لا حيلَةَ لي أخي حبيبي، أنا مُضطرَّةٌ لِمُداراةِ زوجي، ولِطاعَتِه، رُبّما... رُبَّما لن أستطيعَ مُجدَّداً، رُبَّما لن أستطيعَ مُجدَّداً المجيءَ لِرؤيتِكُم... لأنّ، لأنَّ قُرباني يقولُ إنَّ مجيئي إلى هُنا سابِقَةٌ تُدمِّرُه، يُمكِنُ أن تجلِبَ لهُ مُشكِلة. حجّاج قلِقٌ كثيراً على وضعِهِ وعَمَلِه. لكُم، لأُسرتِنا صحيفةٌ سيِّئةٌ عندهُم، صحيفةٌ يا أخي العزيز؛ اِسمٌ سيِّءٌ، يسقُطُ السَّقفُ على الإنسان ولا يسقُطُ الاسمُ عنه. عزائي ومواساتي ليسا بالمجيءِ والنِّساءُ لن تنطقَ حرفاً عنكُم. بعضُهُم لهُ لِسانٌ صارِمٌ يا أخي الحبيب. لا أذهبُ حيثُ لا يجب. الاِسمُ السَّيِّءُ الّذي حدثَ بهذا الشَّكلِ يجعلُ المرءَ بعيداً عن نفسِه. يبتعِدُ الإنسانُ عن نفسِه، وكُلٌّ يُريدُ أن يُكلِّمَ الآخَرينَ بِألفِ لِسانٍ صامتٍ، ويصنَعَ حالَةَ أنا نفسي لستُ أنا، أنا نفسي لستُ أنا، أنا لستُ ذلكَ الأنا الَّذي في فِكرِكُم! فأنا مُضطرَّةٌ أخي الحبيب إلى أن أبتعد أنّني، في الواقِع... عن نفسي أبتعِد. لكنّني أراكَ في كُلِّ وقتٍ أو تمُرُّ بِفِكري، أُفكِّرُ في كُلِّ وقتٍ بِحالِ وعَيشِ أبينا الَّذي ظُلِمَ كفرخِ طير، أورَمَتِ الغصَّةُ حلقي. تضخَّمت غُدَّةُ حلقي. وقلبي يُريدُ أن ينفجِر، ليتني أصيرُ ماءً وأنسرب في الأرض. أمير... أمير... أخي حبيبي، انطق بحرف من الكلام، قُلْ ما تشاء فيما أقول. ليتَ بلاءك يصيبُ عيني. أنت الّذي بهذهِ الحالةِ تُسبِّبُ قبلَ أيِّ شخصٍ الموتَ لِوالِدِنا. أخيراً كيف صِرتَ جائراً فجأة، وأنت الّذي كُنتَ حَسَناً حَسَناً؟ أنت الّذي كُنتَ تنصحُ الجميعَ وتُذكِّرُهُم، طُلاّبُكَ مثل بروانة يتنزَّهونَ بعيداً عنك، إنَّهُم يُحبُّونكَ مثلَ أخٍ كبيرٍ لهُم... شقيقاتُكَ سيشِبنَ يا أمير يا أخي يا حبيبي!
كنتُ أسمعُ أصواتَهُما وأنا مُقيمٌ على نفسِ الحالِ، أقرأُ لِلمرَّةِ المئةِ قِصّةَ منوشهر وغيرها، سلم وتور وإيرج1 الَّذين صاروا قريبينَ منِّي حتى كأنّي أراهُم وأستطيعُ أن أتصوَّرَ كم تألَّموا. في المراتِ الأخيرةِ الّتي رأيتُ فيها عَينَي أمير بدتا مُضيئتَين، مُضيئتَينِ أكثرَ من السَّابِق، بين الخَجَلِ والهولِ والشَّكّ، شيءٌ أكثرُ من اليأسِ تفتَّحَ من بُذورِهِما. شعرُهُ الطَّويلُ المُجعَّدُ مرخيٌّ على كَتِفَيه، وفي شعْرِهِ عِرْقٌ أبيضٌ أراهُ في وَسَطِ شعرِهِ تماماً. كنتُ أرى ولدي في القبوِ من خلْفِ زُجاجِ النَّافِذةِ الكَدِرِ وهو يضعُفُ ويهرُمُ، ولا أستطيعُ أن أعمَلَ شيئاً من أجلِه. كانت ليالي كُنْتُ أسمعُ منهُ أصواتاً عجيبةً، وكُنتُ أُحسُّ أنَّهُ يرى كابوساً في منامهِ، وأستطيعُ التَّخمينَ في مُخيِّلتي أنَّ ابني كان يرى أحلاماً موحِشَة، حُلُمٌ ورؤيا وكابوس، كابوسُ سُقوط، سُقوطُ أُناسٍ من أسْقُفٍ عالية، سُقوطُ حِجارةٍ ثقيلةٍ في الخلاء، سُقوطُ فتيةٍ في أعماقِ اليأسِ الأسود، مسخُ وجهٍ في النَّومِ، وهو يتألم، وفقط يتألَّم، حُلُمٌ بِصرخاتٍ موحِشَةٍ يائسة، حُلُمٌ بِرجُلٍ يُسحَبُ أولادُهُ للمسلخِ ويُنتهى منهُم سريعاً، نساءٌ يبقُرنَ أرحامهُنَّ كي لا تعلق بها النُّطفةُ وذلك ما يستطِعنَ فِعله... وآهٍ، آه اليأسُ مثلَ قنبلةٍ مخنوقة، وأشياءٌ عجيبةٌ وصُدَفٌ عجيبةٌ، أنا هرمتُ حتّى اعتدْتُ على رؤيتها وسماعِها دون تعجُّبٍ كبير، لكنْ أمير لم يُوفَّقْ إلى الآنَ ليتلقّى عجائبَ الزَّمانِ بِشكلٍ عاديّ، والإحساسُ بالذّنبِ ـ وهذا استنباطٌ منّي ـ هو شيءٌ يؤذيهِ أكثَرَ من جُرحٍ باقٍ في العظم. أمير بالنِّسبةِ لي وأنا أبوهُ لا يزالُ شابَّا. لكنَّهُ ليس شابّاً إلى ذلك الحدِّ الَّذي أستطيعُ معهُ أن أتحدَّثَ إليهِ بِلِسانِ النَّصيحة، من أجلِ ذلكَ فأنا وولدي نفقدُ شيئاً فشيئاً لُغتنا المُشترَكَة. فأمير لا رغبَةَ لهُ في المُحادثةِ وأنا أيضاً عندي خجلٌ من التَّكلُّم، وأخيراً صرتُ إذا ما حدّثتُهُ عن شيءٍ فإنَّهُ يحفظُ ما أقولُهُ عن ذلكَ الشَّيءِ باعتِبارِهِ كلاماً، وأنَّ كُلَّ ما قُلتُ كان يجبُ أن لا يُقالَ، وأنَّ السُّكوتَ كان واجباً. فرزانة فقط، بعيداً عن عينِ زوجِها كانت تسرقُ الفُرصَةَ أحياناً وتحضرُ فجأةً، وتُحاوِلُ بِلَحنِها وعاطِفتِها وحنانِها أن تجعَلَ أمير ينطِق، فهي وأمثالُها فقط يستطيعون التَّعبيرَ عن هذهِ المصائبِ الكُبرى بكلماتٍ صغيرةٍ بلا مبالاةٍ بالكمِّ والكيفِ من هذهِ الكلمات. كانت فرزانة تجلسُ عادةً على أسفلِ درجةٍ من دَرَجِ القبوِ كأُمٍّ حنونٍ، تحمِلُ طفلها الصَّغيرَ على رُكبَتَيها، تذرفُ الدَّمعَ وتُكلِّمُ أمير، وبتجميعي لِحواسّي أستطيعُ سماعَ ما تقول ـ... بي غصَّةٌ وعندي اختناقٌ من ضخامةِ غدَّةِ الحلْقِِ يا أخي الحبيب. ارحمني على الأقلِّ. لم أعُدْ أستطيعُ أن أراكَ تذوبُ أمامَ عيني. إلى متى نخسرُكَ بهذا الشَّكل. محمَّد تقي الَّذي بذلكَ الشَّكل، مسعود أيضاً الّذي... لا خطَّ عنهُ ولا خبرَ وأنا أفقدُ الأمَلَ شيئاً فشيئاً، وأختُنا بروانه... بروانة... أختي الصّغيرةُ يا أمير حبيبي! لا يُعرَفُ شيءٌ... لا يُعرَفُ عنها شيءٌ غيرُ الموت، غيرُ الموت. الموتُ الّذي انتهكَ حُرمَتَها. حين أتخيَّلُ ذلك اليوم الَّذي لابُدَّ أن يأتوا بِهِ بِجنازَةِ مسعود أو بِلَوحَةٍ عنه، وهذا يمُرُّ بِخيالي كُلَّ وقت، لا أعرِفُ ماذا يجِبُ أن أفعلَ فأضحَك. وفي النَّهارِ في كُلِّ وقتٍ يخطرُ لي أنَّهُم قد جاؤوا بجنازةِ محمد تقي، ممّا لا أعرفُ معهُ ماذا عليَّ أن أفعلَ، فأحبسُ البُكاء. موتٌ وموت، كم من الموت... إخوتي، إخوتي... الإخوة! أُنظُرْ ما جرى، أُنظُرْ كيفَ صارَ أنّني لا أستطيعُ جهاراً ودون مبالاةٍ وخجلٍ أن أنطِقَ حرفاً عن الموت! أختنا ماذا حلَّ بِها، أمير، أختنا الصَّغيرة؟ المدينةُ مليئةٌ بالمناديلِ وفي أزِقَّتِها التَّوابيتُ تسيرُ في طُرُقاتِها، وشوارِعُها الكُبرى مفروشةٌ بالدِّماء، وزوجي من عُمَّالِ الموتِ قد صار، حيثُ أنَّهُ عَزَمَ... ماذا أعرف! وأنا أخي حبيبي، ضخامةُ الغدَّة، ضخامةُ الغدَّةِ أسفَلَ الحَلْقِ أصابتني وتخنقُني وأنت... صامت، صامِت... أنا رُبَّما أقضي من هذهِ الحالةِ المُضطرِبةِ يا أخي الحبيب، أمير... أمير!... أراكَ تضعُفُ وتتلفُ وهذا الألَمُ سيقضي عليَّ أخي روحي. كلِمَةً على الأقل... أمير!
لا! لا أستطيعُ أن أتصوَّرَ أنَّ أمير فقد عقله، لا... لا يجِب! إلاّ أن تكونَ تلكَ الأحلامُ المُرعِبة، تلك الكوابيس...

الصفحات