في ذلك الزمن كان أول الغائبين هو الزمن.. وكأننا لو ذكرنا تاريخ تلك الحوادث، فإننا سوف نزوّرها، كان فعلا فالتاً من الزمن، والزمن كان خائناً للحدث. فكأن عملية التأريخ هي عملية تزوير مهما حاولنا تأريخها..
أنت هنا
قراءة كتاب من سرق الطماطة أيها الوطن
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ابن عربي في استراليا
كنت جالساً على مدرّجات دار الأوبرا الاسترالية، وكانت عشيقتي الاسترالية «كوستنس» والتي هي من أصل ايرلندي مستغربةً من ذهاني وأنا أتصفّح حزمة كبيرة من الأوراق مقتطعة من كتاب الفتوحات المكية لابن عربي وجدتها في مكتبة قديمة انزوت في زاويتها كتب لغة جرحية اسمها العربية.
لقد استغربت هذه البجعة الذهبية كيف أنني تحولت الى قارىء لهذه الكتب الضخمة، لا لشيء الا لكونها جزءاً من بقية سيوف مثلومة في حروب سالفة.
كانت بضع أوراق مستنسخة طلبت من صديق، أقصد كان في السابق صديقاً، أن يرسل لي مواضيعها من كتب شحيحة بعثت بعناوينها إليه أكثر من مرة. لقد كررت إرسال العناوين، وكذلك كررت التساؤل حول تلك الكتب التي لا تصل على الرغم من أني أرسلت المبلغ وضعفه الى عدة أصدقاء، لكن القلب اكتفى بحفظ أسماء الأصدقاء مثلما اكتفى جهاز الكمبيوتر ببضع رسائل من الانترنت!
كان ابن عربي يقول لي وأنا ساهم مع التحولات الأخيرة للنوارس:
ومن أعجب ما رأيت من بعض الشيوخ من أهل الله ممن كان مثل أبي يزيد في الحال وربما أمكن منه فيه فقعدت مع هذا الشخص يوماً بجامع دمشق وما يجري له معه في وقائعه فقال لي:
إنَّ الحق ذكر له عظم ملكه.
قال الشيخ: فقلت له:
يا رب ملكي أعظم من ملكك.
فقال لي: كيف تقول وهو أعلم؟
فقلت له: يا رب لأن مثلك في ملكي فإنك تجيبني إذا دعوتك وتعطيني إذا سألتك وما في ملكك مثلك.
قال: فقال لي: صدقت.
كنتُ ساهماً بذكرى الهور وذكرى جبران، ورياح استراليا تحمل متغيرات مناخ الطبيعة هنا، والمناخ السياسي في ايران وسوريا، هناك.
في ذلك الزمن كان أول الغائبين هو الزمن.. وكأننا لو ذكرنا تاريخ تلك الحوادث، فإننا سوف نزوّرها، كان فعلاً فالتاً من الزمن، والزمن كان خائناً للحدث. فكأن عملية التأريخ هي عملية تزوير مهما حاولنا تأريخها.. وحده القلب وبوح الفقد، يستطيع أن يترك إمضاءه وتوقيعه على مثل هذه الرواية.
قلت في نفسي: لهذا السبب لم يستطع فيلسوف بحجم هيدجر الا أن يكتب مرثية غاية في الرقة، أمام لوحة لفان كوخ تمثل أحذية بالية. لقد أصرّ هيدجر أن الأحذية هي لفلاحة فقيرة، وأصرّ جاك دريدا على أن الأحذية لا تمثل الا أنفسها بينما قال آخرون إنها أحذية فان كوخ نفسه. كم هو عجيب حقاً أن هيدجر لم تهزه نازية هتلر لكنه اهتز لرسمة حذاء!
أنا وجبران لم نكن يوم ذاك أصدقاء بعد.. لكننا لم نكن أعداء أبداً.
الأسمى من ذلك، أنه كان شخصاً لا يعرف معنى الكراهية لأحد.. كان بشوشاً ودوداً. في أول ليلة بت فيها في مدرسة «معهد الامام الرضا»، وهي مدرسة يشرف عليها «حزب الدعوة الإسلامية»، تطوع البعض لتعليمنا صلاة ليل مع أهدائه بعض الكراسات التي كان يكتبها الشيخ محمد مهدي الأصفي، والتي جميعها (عدا اثنين منها) إنشائيات باهتة، القديم منها اقتباس لأفكار مالك بن نبي، والحديث منها خليط من أفكار العلامة محمد حسين الطباطبائي وخطابات الرئيس الايراني، محمد خاتمي.
كان هذا المتطوع يشرح لنا أشياء وأشياء، عن أفكار حزب الدعوة الدينية والسياسية، ذلك الحزب الذي كان ثاني الأحزاب بعد الحزب الشيوعي ثقافة وتمرداً منذ ستينيات القرن العشرين وحتى جفاف الهور الأخير.
كنا نحدق فيه كقطط صغيرة، ونختلس الضحك، منتظرين رحيله كي نفتح المذياع لسماع الأغاني العربية.
كان يشاركني في هذه الجريمة النكراء، بعض أصدقاء الهور الذين دخلوا معي الى ايران بعد تركنا الأهوار جريحة وراءنا.
وهي الجريمة التي سوف تكتشف ويتم طردي شر طردة، بسببها مع قيامي بتثبيت حضور اسم أحد الطلبة، مع كونه غائباً عن حضور الدرس والمتابعة.