في ذلك الزمن كان أول الغائبين هو الزمن.. وكأننا لو ذكرنا تاريخ تلك الحوادث، فإننا سوف نزوّرها، كان فعلا فالتاً من الزمن، والزمن كان خائناً للحدث. فكأن عملية التأريخ هي عملية تزوير مهما حاولنا تأريخها..
أنت هنا
قراءة كتاب من سرق الطماطة أيها الوطن
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
كان كل واحد منا يغيب يوماً أو يومين ويعمل في الطين والبناء،. إذ إنّ مرتب المدارس الدينية العراقية في ايران كان أقل من قطرة في الرمق. فيقوم الرفيق الحاضر بتسجيل الرفيق الغائب في دفتر الحضور.
بعض الأحيان كنا نغيب لسبب آخر، وهو السبب الأحب:
إذ لا توجد للفتيات فرصة الانفلات من مراقبة السوط العائلي سوى فترة ذهابهن إلى المدرسة. فكانت الفتاة تتخلّف عن بعض الدروس كي تجد ساقية حامية الشوق في انتظارها.
بهذه الطريقة، كنتُ أنا أهرب من ذلك المعهد، وكانت بطتي العراقية تهرب من مدرسة مشابهة اسمها: مدرسة «روز خدا دختران». اسم جميل أليس كذلك؟! يوم الله للبنات.
أية مدارس هذه وأي طلاب هم هؤلاء؟.. لا.. بل كنت أنا مثلاً أقوم بالغشّ.. بتسريب معلومات للطلاب الكسالى مثل بعض الطلبة الكبار في السن، الذين كانوا أشباه المسيح يوم ذاك لأنهم كانوا لتوهم قد خرجوا من سجون أبي غريب الرهيبة فقضوا عشرات السنين صلاة وعبادة، والآن هم في ولايات بيرث وسدني وغيرها في استراليا واميركا والدانمارك والسويد، أشبه بقطيع من الذئاب.
في الصباح وجدت على مدخل الباب الرئيسي، قصيدة بمناسبة نجاح بعض العمليات العسكرية لحزب الله اللبناني، بعنوان «ذهب زمن الطماطه يا لبنان»، مع توقيع: «عبد الرزاق جبران»، حيث كان حزب الله اللبناني أكثر بكثير بالنسبة إلينا، من حزب يقاوم اسرائيل ويحاول استرجاع كرامتنا الإسلامية والعربية والشرقية. كنا نرى في حسن نصر الله امتداداً لرجال الأهوار العراقية، كنا نستشعر بأن حسن نصر الله «واحد منا»، ولم نعرف أنه واحد علينا إلا بعد سقوط صدام حسين واحتفالاته بكل عملية ارهابية ضد المدنيين العراقيين، باسم المقاومة، المقاومة التي كانت ايران يداً ممدودة لها، حتى لرجال القاعدة السلفيين الذين يكفرون الشيعة برمتهم، ايران كانت تعين الارهاب ضد العراق الجديد كي تبعد طوفان الديموقراطية الوشيك عن أراضي الجيتو التابعة لها. ولهذا سيجد شيعة العراق المأزق ذاته للمسيحيين في لبنان. إنهم في نظر العرب شيعة اتباع لايران، بينما تنظر اليهم إيران بأنهم عرب ما زالوا ينجبون أساتذة النقد العلماني المستمر.
لقد لفت انتباهي عنوان القصيدة أكثر من مضمونها، وأثارني لقب «جبران» أكثر من الشخص المعني به.
كنتُ لتوي قادماً من الأهوار، وأريد أن أتحول من مدافع عن الماء الى مدافع عن الحروف. وكنت لا أزال محملاً بغبار البراءة الملطخة بدم الأجوبة الذاهلة.
كنتُ لتوي داخلاً حقل ألغام ما يسمى بالدراسات الحوزوية، أو الدينية. تلك البيوت والمنازل القديمة التي تسمي أنفسها مدارس أو حوزات، تتكفل بشرح اللاهوت الشيعي (وقسم أقل من اللاهوت السني والمسيحي واليهودي والغربي). والتي كان الشباب العراقي تواقاً لترك أعماله ودراسته الأكاديمية، والانضمام اليها، بفعل منع صدام حسين الانتساب اليها، فغدت الحوزة أسواراً من «الغيتو» الإسلامية المحاطة بالأسرار والقداسة والغموض، بأكثر من أسوار الجيتو الاسرائيلي.
كنا صغاراً جداً، حاولوا إفهامنا أكثر من مرة وبأكثر من أسلوب، بأنَّ الدين ضد الفرح، وبالتالي فهو ضد الغناء والطرب، وكل ما يتعلق بذلك، حتى المشي في الشارع هو الآخر محكوم بقاعدة «ولا تمشِ في الأرض مرحاً».
المتدين هو إنسان يبحث عن اللطم والبكاء والتهاوي تعباً إثر الركوع والسجود والتلاوة، علّه يخلص من الذنوب، علّ اللَّه يخفّف عنه مصيبة الموت والحساب، بفضل شفاعة النبي وأهل بيته أو مقابل أجر ما قدمه من صلاة وصوم. أسماء الذين تحزن لفواجعهم أو تفرح لبطولاتهم وفتوحاتهم، هؤلاء الذين تذكرهم وتلطم وتفقد حواسك الداخلية والخارجية لكثرة ما تبكي وتمارس الحزن على مصيبتهم أو تفرح وتكرر قصة انتصاراتهم التي وقعت قبل ألف عام بدون أن يثبت التاريخ أنك حفيد أحد قتلتهم حتى تستحق مثل هذه العقوبة الرهيبة، أو أنك أحد ورثتهم فتتحمل مشقة حفظ كل ذلك التاريخ الطويل من المعارك.
على أية حال فطقوس المذهب الشيعي ليست بعيدة عن جنون صلاة التراويح السنية. واذا كان «الطالبان» قد صبغوا النوافذ بالأسود، فإن الشيعة اكتفوا بالقماش الأسود فقط. ما الفرق بين السواد والسواد يا ترى، خصوصاً بعد التاسع من نيسان 2003 حيث ستتكاثر الصور التي تلوح لك بأنها حسين العصر، وإن لم تقبل فأنت الشّمر المعاصر؟!!
هو الإسلام ومذاهبه إذن. راية الإسلام القديمة هي البياض، لكن الإسلام المعاصر يحثّ على السواد.. بدءاً من سواد ثياب المرأة وحتى لافتات المراسم الدينية.
أنت إذن في مراسم فاتحة مستمرة.. وعليك أن تتخيل جنازة منصوبة ليل نهار، إذ أنه بحسب قطرات دموعك يبني اللَّه لك بيوتاً في الجنة. والأمر هنا متروك لك طبعاً في أن تتخيل لون هذه الجنة وحقولها وبساتينها التي زرعت وسقيت بالدموع واللطم وعقدة الحزن هذه.
ألا سحقاً لرب لا يرضى الا بعذاب عبيده.
ألا سحقاً لكل إمام أو نبي لا يشفع لاتباعه إلا بشق الرؤوس بالقامات والسيوف للنفس أو للآخرين.