كتاب سحر الواقع، لكاتبه ريتشارد دوكينز، والذي ترجمه للعربية المترجم عدنان علي الشهاوي، الواقع هو كل ما له وجود، ويتحقق على الدوام، أليس كذلك؟ لكن الأمر ليس كذلك، هناك مشاكل عديدة.
أنت هنا
قراءة كتاب سحر الواقع
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
في واقع الأمر، كل هذا ليس عصيًّا على الفهم. فلقد اعتدنا تمامًا على التغييرات المتدرجة، خطوة صغيرة فخطوة صغيرة، واحدة بعد الأخرى، حتى يحدث تغيير كبير. فأنت كنت في وقت من الأوقات طفلا صغيرًا. والآن لست كذلك. وعندما يتقدم بك العمر بقدر كبير سيتغير شكلك نوعًا ما مرة أخرى، رغم أنك عندما تستيقظ من النوم كل يوم من حياتك، تكون أنت الشخص نفسه الذي ذهب إلى فراشه في الليلة السابقة. فالطفل يتغير إلى صبيّ، ثم إلى فتى مراهق، ثم إلى بالغ متوسط العمر، ثم إلى شخص كبير السن. وهذا التغيير يحدث تدريجاً على نحو بالغ حتى إنه لا يوجد يوم محدد تستطيع عنده أن تقول: «هذا الشخص توقف فجأة عن أن يكون طفلا وأصبح صبيًّا». وفيما بعد لن يأتي يوم تستطيع فيه أن تقول: «بالأمس كان هذا الشخص متوسط العمر، واليوم هو رجل مسن».
يساعدنا ذلك على فهم تجربتنا الفكرية، التي تعود بنا عبر 185 مليون سنة من أجيال الآباء والأجدًّاد وآباء الأجدًّاد الكبار إلى أن نأتي وجهًا لوجه مع سمكة. وإذا تحولنا لنتقدم فترات للأمام مع الزمن، لكان ما حدث عندما كان لدى سمكة من أسلافك طفلة سمكة، أن أصبح لها طفلة سمكة، والتي أصبح لديها طفلة... إلخ، والتي بعد أجيال استمرت 185 مليون سنة (تتخلى فيها تدريجيًّا عن الخصائص السمكية) تحولت إلى شخصك أنت.
وهكذا كان الأمر كله تدريجاً إلى حد كبير ـ تدريجيا بصورة بالغة حتى إنك لا يمكن أن تلحظ تغييرا يذكر كلما تقهقرت إلى الخلف، لمدة ألف عام، أو حتى عشرة آلاف عام، والتي سوف تعيدك إلى جدك الأكبر رقم 400 تقريبا أو حتى قد تلاحظ قدرا ما من التغييرات الطفيفة على طول المسار، لأنه لا يوجد شخص يشبه أباه تماما. لكنك لن تلاحظ أي فروق مميزة بشكل عام.
إن العودة لزمن يبلغ عشرة آلاف سنة عن الإنسان المعاصر ليست فترة كافية لتبيان فرق مميز. فصورة الوجه لسلفك قبل 10,000 سنة لن تختلف في شيء عن شخص معاصر، إذا نحينا جانبا الاختلافات الظاهرية في نمط الملبس والشعر والسوالف. ولن يكون أكثر اختلافا عنّا إلا بقدر اختلاف أناس عصريين عن أناس عصريين آخرين.
ماذا عن مائة ألف سنة، أين لنا أن نجد جدك الأكبر رقم 4,000؟ حسنٌ، والآن ربما يكون ثمة اختلاف يمكن ملاحظته. ولعله مجرد زيادة بسيطة في سمْك الجمجمة، خاصة أسفل الحاجبين. لكنه لا يزال مجرد اختلاف طفيف، والآن هيا ننطلق قليلا إلى الوراء في الزمن. فإذا مررت بالمليون سنة الأولى على طول رف الكتب، ستجد أن صورة جدك الأكبر رقم 50,000 قد اختلفت بما يكفي لتؤول إلى نوع مختلف، ذلك النوع الذي نطلق عليه الإنسان المنتصب Homo erectus. وفي هذه الأيام، كما تعلم، نحن نسمَّى الإنسان العاقل الـ Homo sapiens. وهذان النوعان قد لا يرغبان في التناسل معا، أو، لوصح ذلك، فلربما لا يكون لوليدهما قدرة للحصول على أطفال من صلبه ـ تماما مثل البغل، الذي ينجبه أبٌّ حمار وأمٌّ فرس، لا يكون قادرًا في أغلب الأحيان على إنجاب ذرية. (سنرى السبب في الفصل التالي).
مرة أخرى، رغم هذا، كل شيء يتم بالتدريج. وأنت من الـ Homo sapiens بينما جدك الأكبر رقم 50,000 كان Homo erectus. لكن لم يحدث أبدا في أي وقت أن أنجب الثاني مولودا من النوع الأول بشكل مفاجئ.
لذلك، يصبح السؤال عمن هو الإنسان الأول، ومتى كان يعيش، بلا إجابة دقيقة. إنه نوع من التشوش، مثل الإجابة عن السؤال: متى توقفتَ عن كونك طفلا وليدا لتصبح صبيًّا؟ وعند نقطة معينة، ربما أقل من مليون سنة لكن أكثر من مائة ألف سنة، كان أسلافنا مختلفين عما نحن عليه بما يكفي لئلّا يتمكّن الفرد المعاصر من التناسل مع أحدهم إذا ما التقيا.
وسواء كان ينبغي علينا أن نسمي الـ Homo erectus فردا أم إنسانا فهذا أمر مختلف. وذلك سؤال عن كيفية اختيارك لاستعمال الكلمات ـ والذي يسمى سؤالا عن المعنى. فبعض الناس قد يفضلون تسمية حيوان الزبرا بالحمار (الحصان) المخطط، لكن البعض الآخر قد يرغب في الاحتفاظ بالاسم «حصان» للنوع الذي نستخدمه في الركوب. وذلك سؤال آخر متعلق بالمعنى. وأنت قد تفضِّل الحفاظ على الكلمات «شخص» و«رجل» و«امرأة» للـ Homo sapiens. وهذا أمر متروك لك. فلا أحد، مع ذلك، يريد أن يطلق على جدك الأكبر شبيه السمكة رقم 185 مليونًا لقب رجل. ربما يكون ذلك مجرد نوع من السخف، حتى رغم وجود سلسلة متصلة تربط بينك وبينه، وكل وصلة في هذه السلسلة هي بالضرورة عضو مماثل تماما للنوع المجاور نفسه في السلسلة.