أنت هنا

قراءة كتاب جنون آخر

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
جنون آخر

جنون آخر

كتاب " جنون آخر " ، تأليف ممدوح العدوان ، والذي صدر عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 10

نحن والرحابنة

عقد في بيروت مهرجان لتكريم الفنان الراحل عاصي الرحباني يومي4 و5 تشرين الأول من عام 1986. وفي ما يلي المداخلة التي تقدمت بها في ذلك المهرجان.

كان من الطبيعي أن نفقد عاصي الرحباني. من الطبيعي أن ينخسف من حياتنا. ليس لأنه إنسان معرض لذلك فقط. بل لأننا، نحن، لم نعد جديرين بتلك الأشياء القليلة الجميلة في حياتنا، حتى النصف الثاني من الثمانينات. ولأن في حياتنا من التلوث والقبح بما لا يتيح لكناري غرّيد أن يعيش.

في هذا النصف الثاني من الثمانينات سنكمل خسائرنا وفجائعنا. وسننهي وداعنا لكل ما هو جميل ومتألق، بالضبط لكل إشعاعات الأربعينات والخمسينات.

في الأربعينات كانت ولاداتنا. وفي الخمسينات فورة شبابنا وزهو أحلامنا وجموح تطلعاتنا.

وبعد ثلاثين أو أربعين عاماً ليست الشيخوخة مسؤولة عن الدمار الذي حل بنا، والانهيار الذي نتعرض له. إن المسؤولية تقع على بعثرتنا الحمقاء لأعمارنا الجميلة، ومعها أوطاننا وطاقاتنا الإبداعية. وقلة منا فقط هم الذين يحسون بهذه الخسارة، والذين يتنهدون مخنوقين مفجوعين. ويقولون: ما الذي فعلناه بأنفسنا؟!..

كيف يمكن لنا أن نستعيد ذلك الألق؟!.. أو كيف يمكن لنا أن ننساه؟!.. بل كيف يمكن لنا أن نألف هذه الظلمة القاحلة التي تزداد حلكة من حولنا، بينما النور في ذاكرتنا. ولا تزال آثاره كالماء على وجوهنا؟!..

هل نحن الذين استوقدنا ناراً، فلما أضاءت ما حولنا ذهب نورنا وبقينا في الظلمات؟!..

يمر الزمن غاشماً كجنزير البلدوزر. وفيما البلدوزر يوحي بأنه يغير حياتنا، فإن جنزيره يسحق الزهر والتربة الجميلة الخصبة والعشب الطري. ووراء الجنزير قدم المدحلة لتمزج الندى بالإسفلت.

وفي لمح البصر تنتهي الطفولة والصمت والأحلام، وتحل محلها الكآبة والصرامة وصمت الفجيعة. تزول القرية بزهورها وصباياها وأغانيها، بتنورها وأعراسها ومشاويرها. بدخان مواقدها وطرقاتها البسيطة ومزاريب شتائها ورفوف عصافيرها وحكايات الجدات فيها. ويحل محل ذلك كله الإسمنت والشرطة والمتاريس والردم. ومحل البهجة لا يبقى على الوجوه إلا الخوف والحقد.

لم يكن زماننا طويلاً لكي يساعدنا على النسيان. بل كان سريعاً قاصماً قدم لنا العلقم، بينما طعم العسل لا يزال تحت أضراسنا.

بالأمس فقط كانت امرأة تدق جرن الكبّة، وتنادي ولداً ليناولها الماء، وتدعو عابراً لتذوّق كبّتها. وفي صبيحة هذا اليوم حمل الولد سلاحاً ليقتحم بيت المرأة. وجاء العابر فقتل الاثنين معاً.

نحن لم نتقدم في طريق الحضارة. بل فقدنا هويتنا وملامحنا فقط. ولم نحسن شروط حياتنا، بل فقدنا بساطتها فقط. ولم نصبح أبناء العصر بل فقدنا الزمن، وفقدنا أسبقيتنا فيه. ولذلك لم نتقدم في العمر، بل فقدنا طفولتنا فقط.

يا للطفولة الموؤودة.

كم كان فيها من جمال وعذوبة. كم كان الزمن يسيراً. وكم كانت القلوب كبيرة. «كان الزمان وكان، فيه حانة بالحي، وبنيات وصبيان نجي نلعب بالمي. ويبقى حنا السكران، قاعد حد الدكان، عم بيغني ويرسم بنت الجيران». و«رزق الله ع العربيات». رزق الله على كل شيء.

كان للعيد طعم، وللقمر طعم. وكذلك للورد طعم، وللمطر والليل والحكاية واللعب.

كيف يمكن أن نتشبث بهذا كله؟!..

كيف نتعامل مع هذا الزمن الذي يشدنا بفظاظة لكي نكبر؟!.. فتفقد الأشياء طعمها، ولا يظل لدينا إلا هذا الحنين الغامض، وهذه الحرقة المفجوعة لوداع كل ما حولنا، ولخسارة كل ما كنا نريد الاحتفاظ به.

أهذه هي الحصيلة؟!..

لهذا إذاً كان الرحابنة يلحون على القرية والطفولة والجمال.

قبل أن ننتبه إلى الفجيعة كنا نظن أنهم يبالغون. ولم نكن نرى مبرراً لهذا الإلحاح على الطفولة، والاستغراق في الجمال، ولهذا الوله بالطبيعة حتى صارت أغنياتنا تحتوي من الزهور أكثر مما تحتوي عليه الطبيعة.

كل شيء عندهم جميل. حتى الخيانة ليست أكثر من ولدنة عاشق يرتدع حين يرى دمع حبيبته. وتصفو القلوب بعد العتاب, «ع قد المحبة العتب كبير».

القرية جميلة. والطفولة جميلة. والحب جميل. حتى المشاحنات والعداوات جميلة. العلاقة بالشرطي والمختار والملك علاقة جميلة. حتى الكذب أبيض وجميل، ولا يتعدى مبالغات «جدي بو ديب»، أو اختراع «راجح». حتى فراق الأحبة جميل. حتى الموت، عندهم جميل.

لم هذه المبالغة في تقديم الجمال؟!.. ولم هذا التشبث بالطفولة؟!..

لم نكن قد انتبهنا إلى المسألة. هذه المبالغة من طبيعة الرثاء. والرحابنة لم يكونوا يصفون الجمال، بل كانوا يودعونه. وفي الوداع فقط، في لحظة الخسارة تكتشف روعة ما أنت مقبل على فقدانه، أو روعة ما كان معك قبل قليل. وما تخسره.

الصفحات