كتاب " موتى يقلقون المدينة " ، تأليف عمران عز الدين ، والذي صدر عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب موتى يقلقون المدينة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
تحت سيقان الموتى تماماً،
ثمة أكوام هائلة من النشارة
بقلم: أنيس الرافعي *
القصة مثل غجري لا يعبر بلداً مرتين، لذا يجدر بأي قاص يحترم الطبيعة الزئبقية والمراوغة لهذا الفن الجميل الذي طالما كان طائراً لاجئاً في شجرة السرد، أن لا يكل من البحث عن المساحات الفارغة والأراضي غير المخذولة للتخييل القصصي.
وهذا ما قام به مع سبق الإصرار والترصد صاحب "موتى يقلقون المدينة"، لأن في عرف القاص السوري المبدع عمران عز الدين إذا اكتمل بهاء القصة لا تعود صالحة سوى للتمزيق، ولأن لا ﺃحد مثله بقادر على رش القلق على الحكايات والارتياب في المنطق الناظم لها.
والهدف: نجاة القصة بأي ثمن من ميتافيزيقا الوصول.
ومن هنا جاء هذا "الكتاب القصصي" المحكوم بتكرار موضوعتي الحلم و الموت، و الحضور المتعاقب لشخصية "عبد الستار" الفارزة التي نلفيها في غالبية إنتاج المؤلف، وتواتر السمات العجائبية بمختلف تنويعاتها، وهيمنة السخرية السوداء شديدة اللهجة، والمزاوجة بين لغة الداخل ولغة الخارج استناداً إلى التفات الضمائر وتعددية المنظور السردي، وتناظرات البناءات المعمارية التي وﺇن كنا لا نراها بيد أنها تحدد الشكل وطابعه لكونها تلحم العمود الفقري للـ "الكتاب" مثل العوارض الممسكة بالمباني شاهقة الارتفاع.. جاء منخرطاً في عمق الكتابة من داخل "شعرية الاختلاف"، ونأى بنفسه عن "شعرية المماثلة".
اختلاف مرّشد ومعقلن إذا صح التوصيف، لأن عمران عز الدين خلق لنفسه بسرعة وذكاء معاييره الخاصة في مجموعته البكر "يموتون وتبقى أصواتهم"، غير أن طريقة الكتابة في مجموعته هذه انتهت بتشكيل خطر على هذه المعايير ونسفتها لئلا يسقط عموديا في "النموذج".
وقد تأتى له هذا الأمر بلا جعجعة تجريبية فارغة و دون اللجوء إلى كسر العمود الفقري للحكاية. إذ عمد إلى دفن معرفته التقنوية تحت جلد اللغة وخاطهما في سبيكة واحدة، الشيء الذي أفضى إلى غياب غرز الخياطة التي غالباً ما نلفيها ناتئة على سطح النصوص التي تمارس التجريب بطريقة غير تجريبية وفي غياب العدة الأدبية الثقيلة الكفيلة بانجاز أمر جمالي حاسم من هذا الطراز.
وضمن ذات الأفق الملمع إليه، يتوجب الإلفات إلى خصيصة مهمة في مجموعة "موتى يقلقون المدينة"، هي "سردها البصري المسجل". والمفهوم هنا مستمد بتحوير بسيط من نظرية المخرج الروسي العظيم أندري تاركوفسكي في كتابه "النحت في الزمن"، لأن السرد في قصص عمران عز الدين مرتهن للوتيرة والشدة والاستمرارية، وهي اﻹواليات التي يوحدها مفهوم "الإيقاع". إيقاع للمحكي وللأسلوب وللذات الكاتبة يشتغل من داخل الزمن ويتحرك مثل حركة الكاميرا. و "كاميرا القاص" عندما "تسجل" سيرورة الوقائع والأحداث، تثبت تدفق الزمن وسيلانه، ليتحول إلى نقطة ثابتة في رأس أو لاوعي الشخوص، وعند انفراط النقطة تصل القصة إلى مرحلة الانفراج.
من دون ريب، لأن عمران عز الدين يعرف وصية خوليو كورتزار الداعية إلى "احتجاز الزمن، لأن كاتب القصص يعرف أن الزمن لم يكن في يوم من الأيام صديقاً وفياً له ".
وختاماً، يمكن القول بأن عمران عز الدين من خلال هذه اﻷضمومة، يعيد الكثير من اﻷلق والتميز لطفلة الأدب الصغيرة المشاغبة، لأنه استطاب اللعب في الضفاف المسكونة بالنسبي والهش بعيداً عن كل ما هو نهائي ومكتمل. ولكون مقترحاته وحدوسه الجمالية في " موتى يقلقون المدينة " هي سليلة " ما تمثله الظنون " لا " ما تناله العيون " كناية عن سعيه الدؤوب للانسلال خلف مصيره وعدم تقاعده عن مهنة البحث والسؤال وشحن قناديل الإبداع في كل مرة بزيت جديد.
في ﺃحد حواراته قال الكاتب الايطالي ﺃنطونيو تابوكي في معرض رد عن سؤال الكتابة: "لا توجد وصفات في الكتابة. إذا كان هناك نجار حكيم، اذهبوا عنده مساء قبل أن يغلق محله وانظروا في ﺃرض حانوته ".
وبالمثل.. سأدعوك أيها القارئ الكريم لتنظر إلى ﺃرض هذه المجموعة، تحت سيقان الموتى تماماً، فثمة أكوام هائلة من النشارة.
* قاص من المغرب