أنت هنا

قراءة كتاب النقد الذاتي بعد الهزيمة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
النقد الذاتي بعد الهزيمة

النقد الذاتي بعد الهزيمة

كتاب " النقد الذاتي بعد الهزيمة " ، تأليف صادق جلال العظم ، والذي صدر عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع عام 2007 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 2

دفعتني حالة الإنكار والهروب هذه الى العمل بمزيد من السرعة (والتسرّع أيضاً) لإصدار كتابي مع الإصرار الشديد على إستخدام تعبير "الهزيمة" لوصف ما حدث بدلاً عن عبارة "النكسة" التي كانت قد دخلت حقل التداول الرسمي والفكري والشعبي بغرض تمويه حقيقة ما حدث ووقع، وبالفعل كان كتاب "النقد الذاتي بعد الهزيمة" أول عمل واسع الانتشار يُسمِّي الهزيمة باسمها علناً وصراحة وعلى رؤوس الأشهاد وبلا أية محاولة للتلطيف والتهوين على المكتوين بنارها ونابالمها.

من العلامات المُذهلة على حالة الانكار المذكورة قيام أحد أبرز قادة حركة القوميين العرب في لبنان يومها، محسن إبراهيم، وأحد أهمّ المُنظِّرين للناصرية والمُدافعين عن الخط الناصري في العالم العربي بنشر مقال في مجلة "الحرية" الصادرة في بيروت فوراً بعد الهزيمة يحمل عنواناً يفسـِّر نفسه بنفسه: "كلاّ لم يخطىء عبد الناصر ولم يُهزم العرب" (14/6/1967).

أما في دمشق فقد كان الشعار المتداول بكثافة هائلة رسمياً وشعبياً قبل الهزيمة بأيام يقول: "لن يمرّوا"، وبقي الشعار ذاته متداولاً لفترة مديدة بعد أن مرّوا وقضي الأمر وانتهت الحفلة. وفي القاهرة ظهرت مريم العذراء فجأة

في كنيسة تحمل اسمها في ضاحية الزيتون, وتحوَّل الظهور الى حالة شبه هستيرية بفعل تبني أجهزة الاعلام المصرية له (وعلى رأسها صحيفة

"الأهرام" الرصينة!) وترويجها المثير لمعناه العجائبي النافي للهزيمة (عالجت مسألة ظهور العذراء بشيءٍ من الاستفاضة في كتابي: "نقد الفكر الديني"). وكل من عاصر تلك الحقبة البائسة والمعتمة يذكر بلا شك ما كان يتكرر على أسماعنا ليلاً نهاراً من أن "النكسة" أخفقت في تحقيق أهدافها لأن الأنظمة العربية التقدمية لم تسقط ولأن الطيارين العرب، وفي مصر تحديداً، لم يصابوا بأي أذى في الحرب ولأنهم على أتمّ الاستعداد لـردّ الصاع صاعين للعدو الاسرائيلي ما أن يقوم الاتحاد السوفياتي بتزويدنا بطائرات جديدة تحلّ محل تلك التي خسرناها في اللحظات الأولى من الهزيمة.

في شهر أيار (مايو) 1967 أمر الرئيس جمال عبد الناصر الجيش المصري بالتمركز بكل قواته وأسلحته في سيناء وعلى طول الحدود مع إسرائيل – على الرغم من أن جزءاً لا يُستهان به من هذا الجيش كان في اليمن يساعد الجمهورية الفتية هناك على البقاء والاستمرار. أطلق هذا التحرّك دينامية سياسية- عسكرية عربية وإسرائيلية تصاعدية بلغت ذروتها الحاسِمَة في صباح يوم الإثنين 5 حزيران. لكن قبل ذلك اليوم كان قد لاحَ للجميع في الجانب العربي وكأنَّ لحظة تحرير فلسطين المُنتظرة (على طريقة المهدي المُنتظر) قد جاءت. وبالتالي، طغتْ على العالم العربي موجة عارمة من التعبئة النفسية والعاطفية التفاؤلية الهائلة بكل آمالها الشاهقة وتوقعاتها الظفراوية المنفلتة من كل عقال وعلى المستويات كافة: شعبياً ورسمياً وعسكرياً وإدارياً وجامعياً وفكرياً وطلابياً الخ...

أذكر أنه صبيحة يوم اندلاع الحرب أيقظني رنين جرس التلفون في منزلي في بيروت في الصباح الباكر, فوجدت أدونيس على الطرف الآخر من الخط يتصل ليُعلمني بأن الحرب قد بدأت وبأن الطائرات الاسرائيلية تتساقط والجيوش العربية تتقدم وفقاً لأجهزة الاعلام العربية (الإذاعات وراديو الترانزيستور في تلك الأيام) ووفقاً للبيانات العسكرية الرسمية أيضاً. تبادلنا الحديث عن الحرب باطمئنان وبلا قلق زائد إذ أن فكرة الهزيمة لم تخطر في بال أحد, كما أن احتمال الانكسار العربي لم يكن وارداً – أسوأ الاحتمالات كانت لا تتعدَّى، في تصوّراتنا الواهِمة والقاصرة، نوعاً من التعادل الحرج أو التوازن الجديد بيننا وبين إسرائيل.

ليس بالامكان مقارنة حال التعبئة العاطفية التفاؤلية والحماسة الهائلة والنشوة الانتصارية العارِمة التي سادت العالم العربي (ومسَّتْنا جميعاً بسحرها الخادِع), في الفترة الواقعة بين تمركز الجيش المصري في سيناء ولحظة إندلاع الحرب, إلاّ بالحالة المشابهة التي سادت عالمنا العربي يوم أعلن الرئيس جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس في صيف سنة 1956 وما تبع ذلك من أحداث جسام. ولا أعتقد أن أحداً من الجيل الذي أنتمي إليه قد شفيَ حقاً من ضربة السقوط المُفاجىء من هذا الارتفاع الشاهِق إلى قعر هاوية الهزيمة السحيق، وكله خلال لحظات معدودات.

في فترة التعبئة وانتظار الحرب هذه كنت أتناقش مع الأصدقاء والزملاء والمعارف والمناضلين والمفكرين في بيروت ودمشق في الأحداث الجارية في محاولة للتوصل إلى تقدير عقلاني ومتوازن ما لحقيقة ما يجري في كل من الساحات العسكرية والسياسية والدولية التي كانت كلها مفعمة بالمناورات والتمويهات والمخادعات البادية للعيان. كنا نتابع عدد الدبابات عند العدو وعندنا. كنا نقارن عدد الطائرات الحربية وغير الحربية عنده وعندنا. كنا نلحظ عديد الجيوش المحتشدة على طرفي الحدود ليتبيَّـن لنا في الأيام الأخيرة قبل إندلاع الحرب أن إسرائيل تمكّنت من حشد جيش على حدودها يفوق بعدده كلّ ما تمكنت مصر وسوريا والأردن مُجتمعة من حشده من رجال لخوض معركة تحرير فلسطين. كانت مصادر معلوماتنا غربية كلها على الرغم من المنع والمصادرة في الدول العربية كلها باستثناء لبنان، وكنا نشك فيها بقوة في تلك الأيام الاّ أنها كانت المصادر الوحيدة المتوفرة باستثناء بعض التسريبات الآتية من الاتحاد السوفياتي وبعض دول الكتلة الاشتراكية في أوروبـا والمنقولة لنا بدورها بواسطة أجهزة الاعلام الغربية ذاتها.

أذكر أنني توصلت مع بعض الأصدقاء في بيروت ودمشق إلى سيناريو ما بالنسبة للحرب ولاحتمالات مجراها وترجيحات نتائجها استناداً إلى سابقة قريبة, كناقِد شاهدناها وتابعناها, وأقصد الحرب الطاحنة التي نشبت بين الباكستان والهند سنة 1965 في وقت كانت الباكستـان ما زالت دولة واحدة مُوحَّدَة مع البنغال. كان السيناريو الذي رجّحنا حصوله محافظاً جداً بمعايير ما كان سائداً حولنا من سيناريوهات انتصارية فوْريّة تُطرح بحماسة كاسِحة لكل ما هو في طريقها وبعاطفية إندفاعيّة لا نظير لها.

وقياساً على سابقة الحرب الهندية – الباكستانية كان السيناريو المقصود يقول أن الحرب العربية - الإسرائيلية ستنشِب قريباً وبعد أن تقوم الجيوش المتطاحنة بتدمير دبّابات وطائرات وأعتدة بعضها البعض وتقوم بضرب بعض المنشآت الحيوية لدى الطرف الآخر وتقتل وتجرح وتأسـر أكبر عدد ممكن من جنود العدو ستتدخل الدول العظمى بقوة، وتحديداً الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، عبر هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن لترتيب إعلان لوقف إطلاق النار تليه انسحابات عسكرية إلى الحدود السابقة إلى آخر الترتيبات التي كنا قد شهدناها في حرب الهند والباكستان التي أعادت التوازن التقليدي بين البلدين بخسارة نسبية تحملتها الباكستان نتيجة الحرب.

ومع أن هذا السيناريو بدا لي واقعياً جداً وعقلانياً جداً ومًُرجّحاً جداً، إلاّ أن أي تعبير عنه أو عن التوقعات التي ينطوي عليها في الأجواء التفاؤلية المحمومة السائدة عربياً قبل قليل من الخامس من حزيران كان يُتّهم فوْراً بالإنهزامية والعدمية والتشاؤمية حتى في الجلسات الخاصة وحلقات النقاش المغلقة, علماً بأنّ أحداً لم يكن ليجرؤ أصلاً على البوح بها أو بمثلها بصورة علنية، لأنّ السيناريو هذا يُسقِط احتمال هزيمة إسرائيل هزيمة مُنكرة ولأنه يُسقِط معه فكرة حتميَّة تحرير فلسطين، في الوقت الحاضر على أقلّ تقدير.

أما بعد يوم الخامس من حزيران فقد بدا السيناريو ذاته وكأنه حلم ليلة صيف في ورديّته وتفاؤليته ولاواقعيته ولاعقلانيته بالقياس إلى ما حَدَث فعلاً في ذلك النهار. وأترك للقارىء مهمّة التوصّل إلى الاستنتاجات التي يراها مناسبة واستخلاص العِبَر التي يعتقد بأنها مُفيدة بعد قراءة الكتاب.

صادق جلال العظم

بيروت، آذار (مارس) 2007

الصفحات