كتاب " ريام وكفى " ، تأليف هدية حسين ، والذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب ريام وكفى
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ثم تحركت أمي لإنقاذي وبينما هي تتدافع مع أبي زحفتُ من على البلاط إلى حافة الحديقة وسقطت على الشريط الترابي الذي هيأته أمي يوم أمس لتزرع فيه شجيرات الحناء فتعفر وجهي بالتراب الرطب، لكن أبي دفع أمي بقوة وجرجرني، جدتي مسعودة التي خرجت في هذه اللحظة صبّت البنزين على النار في قلب أبي عندما قالت: لا تتهاون معها، دلال امها أفسدها، قالت ذلك دون أن تسأل عما حدث وراح أبي يسحبني إلى السرداب فانقلبت على ظهري إلا أن أمي أشارت إلى بهيجة بتوسل من وراء ظهر أبي أن تفعل شيئاً، وبهيجة هي الأثيرة عند أبي بعد أن أنجبت له الولد الذي كان ينتظره وهي التي عرفت كيف تروضه وتخفف من فيوض غرائزه باتجاه نهرها الذي لا ينضب، فصارت لها المكانة والقول المسموع، تركت ابنها محمود ولحقت بأبي لتخلصني من بين يديه وتقول له: من أجلي اتركها هذه المرة·· كان الرعب قد تمكن مني، كيف أبقى في السرداب المعتم مع الحشرات والجرذان؟
**
السرداب في بيتنا القديم، غرفة مستطيلة تحت الأرض، ننزل إليه بعد خمس عشرة درجة، والدرجات مثلومة الحواف بفعل قِدم البيت، معتم إلا من فتحة صغيرة قرب السقف لا تسرّب الا القليل من الضوء الشحيح بما يسمح لرؤية نقطة الكهرباء التي ما إن نضغط عليها حتى ينتشر ضوء النيون ويكشف عن المحتويات، جدران السرداب جصية متآكلة بفعل الرطوبة، ومحتوياته من كل ما لا فائدة منه، لكن أبي يرفض التخلي عنها ويقول: سنحتاج إليها يوماً ما، وقد تراكمت تلك المخلفات سنة إثر سنة دون أن نحتاج إليها·· كراسي مُخلّعة المساند، طاولات خشبية وبلاستيكية، لوحات تجارية لا قيمة لها، صندوق معدني يحتوي على عُدة من قطع حديدية مثل الجواكيج والمسامير والبراغي بمختلف الأحجام، تلفزيون عاطل، راديو كبير نوع فيليبس ورثه أبي عن جدي وهو الآخر عاطل، فوانيس وشمعدانات ورؤوس غزلان خشبية، وايرات وحبال وموصلات كهربائية··· وعدد لا يحصى من الحشرات التي لا تدري من أين جاءت واتخذت مساكن لها تمشي بخيلاء دون خوف، أنا التي أخاف كلما هددني أبي بالسرداب، أنا الوحيدة من بين البنات من تُهدد بالرمي إلى السرداب، لوقاحتي كما تردد جدتي مسعودة، ولولا (بهيجة) التي لحقت بأبي لقضيت ليلتي في ذلك المكان ولما عدت لمواصلة الدراسة في مدرسة أخرى غير بعيدة عن مدرستي التي طُردت منها·· كثيراً ما تلجأ أمي إلى بهيجة في مثل هكذا حالات لأنها تعرف مكانتها عند أبي برغم أن أذنيّ كانتا تلتقطان عبارة ظلت عالقة في ذهني لسنوات: الضرّة مضرّة·· سنوات عمري القليلة وقتذاك لا تستوعب معنى العبارة، كما أن أمي لم تبح بأحزانها أمام بناتها الصغيرات··وحتى بعد سنوات من موت بهيجة لم تفرد لها أمي مساحة من ذكرياتها لتحكي عن معاناتها بعد زواجه من ضرتها وإهماله المتعمد لها، بل دأبت على مواصلة الحياة كأنها ولدت من جديد بعد موتهما·
منذ طفولتي كنت أبحث عن المختلف وعن كل ما هو مغلق لأفتحه وأعرف ما بداخله، فعندما طرح أبي ذات يوم سؤاله علينا، نحن بناته الثلاث: ماذا نحب أن نكون في المستقبل، كانت إجابة هند وصابرين متشابهة: أريد أن أصبح خياطة مثل ماما، بينما قلت أنا: أريد أن أصبح كاتبة، لم أكن أدرك تماماً ما قلت، لقد سمعت العبارة من طفلة معي في الصف، نظر أبي إليّ مندهشاً وسألني: ماذا ستكتبين؟ تبرعت جدتي المنزوية في ركن الصالة تسبّح: تكتب أدعية لطرد الأشباح·· وعلى ذكر الأشباح، يحلو لي أن أنزل من السرير عند منتصف الليل وأمضي إلى الحديقة، في الليالي المقمرة أو حينما يغيب القمر فتتسيد الظلمة، أتنصّت إلى الأصوات الغريبة التي لا أسمعها في النهار، همهمات، خفق أجنحة أو خشخشة بين أغصان الأشجار أو أي صوت لا أعرف كنهه يخرج من بين شجيرات الآس أو من بين عبق الورود أو من قلوب الأشجار، وأحياناً أصعد إلى سطح البيت وأنظر إلى السماء المفروشة بالنجوم المشعة، وأتمنى ما هو مستحيل، أن تمطر السماء نجوماً، ترى ماذا يحدث لو فكرت السماء وأرسلت نجومها إلى الأرض على هيأة مطر؟ هل سنغرق في مائها اللؤلؤي أم تحترق أجسامنا؟ وذات مرة وأنا في الطارمة المطلة على الحديقة أتوغل في غابة الليل الغارق بالسكون، والظلمة تتشربني، رأيت شيئاً يتحرك قرب شجرة السيسبان، ثم فجأة انتقل إلى شجرة التوت ودخل بين أغصانها، شيء على هيأة إنسان بأطراف متعددة ورأس كبير، فشعرتُ بالرعب ودخلت البيت ولم أكرر الخروج ليلاً إلى الحديقة، وعند الصباح قلت لأمي بأنني رأيت شبحاً في الحديقة في منتصف الليلة الماضية، طبطبت أمي على كتفي وقالت:
- لا توجد أشباح، هذا يسمونه خداع بصر يحدث في الليل والنهار·
وطلبتُ من أمي تفسيراً لما رأيته في الليل فقالت:
- في الليل يسقط ضوء القمر على الأشجار، وأغصان الأشجار تتحرك بفعل الهواء فيتغير مسقط الضوء وبصرك يعطي إشارات خاطئة لدماغك فيرى دماغك ما تراه عيناك·· لم أفهم تماماً ما قالته أمي وبقيت مصرة على أنني رأيت شبحاً، وعندما تعجز أمي عن إقناعي فإنها تردد عبارة عندما تكبرين ستعرفين، صابرين صدّقتني ولم تصدقني هند المولعة دائماً بتبني رأي أمي، جدتي التي كانت تصلي بالقرب منا قطعت صلاتها وردت على الفور:
- الأشباح موجودة وتعيش مع البشر في كل زمان ومكان وملعون من لا يصدقها·
ثم التفتت نحوي وسألتني:
- هل رأيتِ الشبح على شكل إنسان أم حيوان؟
قلت:
- إنسان·
قالت وهي تسقط حبات مسبحتها:
- إذن فهو روح أحد المتوفين من أهلنا·
وعادت تواصل صلاتها فيما همست لي أمي:
- روح الميت لا تظهر للأحياء·
لو كانت أمي قد صدقتني لعارضت جدتي ونفت وجود الأشباح·· حكاية الأشباح هذه سأتذكرها في الأيام الأولى عند عودتي للبيت القديم بعد أن هجرته بسبب ظروف قاهرة·
**


