كتاب " ريام وكفى " ، تأليف هدية حسين ، والذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب ريام وكفى
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
عندما وسوس شيء ما في صدري واختبأت تحت السرير دُهشت لما رأيته، وتكرر الأمر كل ليلة أو كل ما سنحت لي الفرصة، كاتمة ما أراه عن هند وصابرين لئلا تشيان بي، لكنني رحت أحكي لرفيقاتي في المدرسة عن كل ما يحدث على سرير أبي، أمي تخلع ثيابها وترتدي قميصاً شفافاً لا يكاد يغطي جسدها، يرتفع حتى منتصف الساقين، مفتوح من الأمام ومن دون أكمام، تصعد صامتة إلى السرير الذي يتمدد عليه أبي، أما بهيجة فإنها تتعرى تماماً دون خجل، وتتراقص قبل أن تصعد إلى السرير، وفي كل مرة تقول له: خليني أشوف قوتك أيها الأسد··· وأنا صامتة أكتم أنفاسي وأزحف على مهل لأرى كيف يلتحم الجسدان، مذهولةً كنت مما أرى، متسائلة: كيف لامرأة مثل أمي الخجولة أن تتعرى ولماذا يضيع جسدها تحت جسد أبي الضخم وكيف لا تختنق؟ أما بهيجة المربربة ابنة العشرين فقد كانت تأتي بأفعال عجيبة وتضحك وتقول كلاماً لا أفهمه وتتأوّه وتصرخ فأفز معتقدةً أن أبي سيقتلها، ثم، تنطلق ضحكاتها ثانية وتتفوّه بكلام فاحش وتشتم أبي وأبي لا يرد شتيمتها·· يا للعجب، أين كرامة أبي التي يتشدق بها دائماً؟
ذات مرة تشاجر أبي مع رجل غريب رآه يحوم قريباً من بيتنا وهدده أن يسلمه إلى الشرطة إذا رآه ثانية، فابتعد الرجل بعد أن شتم أبي، وما كان من أبي إلا اللحاق به وطرحه أرضاً وراح يضربه ويدوس على رأسه والرجل يصرخ، فهرع جار لنا كان على مقربة من المكان وأنقذ الرجل الغريب من بين يدي أبي وقدميه، ولّى الرجل هارباً وقال أبي لجارنا: لم أستطع كظم غيظي، أنا رجل ذو كرامة وكرامتي لا تسمح لأحد أن يشتمني··· فأين كرامة أبي وبهيجة تمعن في شتمه؟
لم يغفر لي أبي فعلتي، ولم يكتفِ بضربي وإيقاعي أرضاً، بل هددني بالسرداب، وكان كل ليلة يتأكد من أنني نائمة في الفراش قبل أن يمضي إلى غرفته، وقد أطلق عليّ (العفريتة) بعد وقفته المخجلة أمام المديرة، وأصبح كل من في البيت يدعوني بالعفريتة إذا قمت بأي عمل لا يرضيهم، وظل أبي يخزرني بعدم ارتياح فأنزوي في (غرفة البنات) لئلا يمضي بي إلى السرداب·
بعد سرقته البرتقالة وزغاريد جدتي مسعودة، صار محمود يسرق من البيت، يسرق ألعابنا، أقلامنا، وحاجاتنا الخاصة، وبالرغم من أننا نضبطه بالجرم المشهود إلا أنه يُنكر الأمر أمام الجميع، وأحياناً يصرخ لكي يُسمع جدتي فتهرع وتوبخنا، وحينما يشتعل البيت بالمشاكل بين أمي وجدتي يصل الأمر بأمي إلى تهديد الجدة بتركها في البيت، وهذا يعني أن جدتي ستفقد من يخدمها بعد وفاة أبي، عندها تلين قليلاً، لكن لا يلبث الجو بينهما أن يتكهرب مرات ومرات، وتتعدى سرقات محمود إلى أطفال الجيران فحين يلعب الدعبل ويخسر يفتعل الشجار، يخمش وجه هذا الطفل وينهش ذاك ويعود بالدعبل المسروق في جيبه ليحتمي بجدتي مسعودة·
ربما نضجت قبل الأوان وإلا كيف أفسر الأمر عندما تفجرت عواطفي وأنا ابنة الثالثة عشرة وفُتنتُ بريحان، بينما لم تفتتن أختاي هند وصابرين بأحد في ذلك الوقت وهما تكبراني؟ وريحان هذا شاب في السادسة عشرة من العمر، بهي الطلعة ذو عينين سوداوين واسعتين وشخصيته آسرة، يجيء إلى حيّنا من الحي المجاور الملاصق لنهر دجلة، الحي الأكثر فقراً،غالباً ما أراه يخترق شارعنا هو وأصدقاؤه في طريقه إلى المدرسة أو عائداً منها، أو يحمل كتاباً ويمضي وحيداً باتجاه المقبرة الانكليزية، أما بيتنا فيقع في الحي القديم المبنية أغلب بيوته منذ زمن الاحتلال الانكليزي، بيوت واسعة من طابقين على الأغلب وبعضها يحمل تاريخ تأسيسها بحروف بارزة منقوشة على الواجهة العليا للبيت مثلما هو الحال مع بيتنا، وكنت كلما رأيت ريحان تمنيت الزواج منه، لطالما حلمت بسرير رحب يضمنا وأفعل معه ما كانت تفعله بهيجة مع أبي·· وقعت في غرام ريحان مثلما وقعت في غرامه بنات كثيرات متمنيات ما تمنيته، وكان هو يغازل الفتيات جميعهن بعبارات أظنه حفظها من الأفلام العربية، لم أكن أشعر بالغيرة منهن باستثناء عزيزة الشقراء ذات العيون الخضر التي تتغنج وتتمايل وتتضاحك وتكلمه دون حرج، وعزيزة هذه يتيمة الأم منذ كانت في الخامسة من العمر، تزوج أبوها من امرأة داكنة البشرة فأنجبت منه بنتين بذات البشرة قبل أن يموت، وكانت زوجة الأب تشعر بالغيرة من الطفلة الشقراء لئلا تكون سبباً في تعثر نصيب ابنتيها لذلك كانت قاسية معها بوجود أب ضعيف الشخصية، ولم تكن عزيزة موفقة في دراستها فكانت تأخذ السنة بسنتين لكنها حالمة كبيرة ولديها قناعة بأنها ستصبح ثرية ذات يوم وستنتقم من زوجة أبيها بطريقتها الخاصة·
أسمعني ريحان ذات يوم كلاماً بطعم الشهد جعلني لا أنام، ومع أنني كنت أشعر بسعادة لا توصف إلا أنني تعلمت أيضاً من الأفلام والمسلسلات العربية التي كانت جدتي مسعودة تتسمر أمامها ما جعلني أسوق الدلال عليه وأقول له: كم واحدة قلت لها هذا الكلام؟ وكان رده: هذا كلام مخصوص لا أقوله إلا لكِ فسألته والغيرة تأكلني: ولا حتى لعزيزة؟ ضحك وقال: أنا لا أحب الشقراوات ذوات العيون الملونة، وبعد أن توطدت علاقتي به صرنا نلتقي سراً، أحياناً نعبر جسر الصرافية وغالباً ما نمضي إلى المقبرة الانكليزية، ولأن بيتنا قريب من تلك المقبرة فقد كنت أخشى أن يرانا أحد لذلك كانت أخته نجية تقوم بحراسة الطريق كما سيرد في هذه الأوراق لاحقاً، ومن ريحان تعلمت أشياء كثيرة، وكثيراً ما كان يحكي لي عن الأهوار موطن أجداده، وعن تلك الطيور الغريبة والعجيبة التي تهاجر من أقاصي العالم وتأتي إلى الأهوار، وعن القرى الطافية على الماء، وبعد جولات وجولات قال لي أخيراً: سأتزوجك يوماً ما ونمضي إلى هناك، وعندما ضحكت كرر الكلام وهو يغرز عينيه بعيني: سأتزوجك يا بنت المعيدي·
لا ينحدر أبي ولا أمي من المعدان، لكن ريحان كان يقصد مغازلتي وتشبيهي بتلك المعيدية التي نراها في الصور، والتي تقول عنها الحكايات بأنها كانت خارقة الجمال وتنحدر من إحدى قرى هور الحويزة في مدينة العمارة، وكان أهلها من المعدان يبيعون القيمر ويصنعون الحصران والبواري ويربون الجاموس، وقد وقع في غرامها أحد الضباط الإنكليز عندما كانت البلاد تحت الانتداب البريطاني بداية القرن الماضي، فأشهر إسلامه وتزوجها، ولما انتهت مدة خدمته العسكرية في بلادنا أخذها وسافر إلى لندن وجاء برسام كبير ليرسم صورتها ويرسلها إلى أهلها، وما تزال الأجيال تتناقل الصورة المستنسخة في البيوت والمقاهي كما الموناليزا·
عندما عدتُ إلى البيت في ذلك النهار الذي قال لي فيه ريحان بانه سيتزوجني كنت أشعر كما لو أن جناحين نبتا على كتفيّ وحلّقت إلى السماوات، وأحسست بسعادة لم أحس بها من قبل، ولم أستطع كتمان سري فبحتُ لهند وصابرين، ولا أشك أبداً بأن هند هي التي أفشت السر لأمي التي شهقت وصرخت بي: أتقيمين علاقة مع ابن المعيدي وأنت في هذه السن الصغيرة؟ دُهشت والتبس عليّ الأمر، هل هناك ابن معيدي مثل بنت المعيدي الفاتنة؟ أوضحت أمي بأنها تقصد أن ريحان من سلالة المعدان، ألم تصنع أمه القيمر ويربي أهله الجاموس؟ في ذلك الوقت لم أكن أعرف أن المعدان اختصوا بصناعة القيمر وتربية الجاموس فقلت لأمي لأناكدها: وماذا في ذلك، هل هناك أطيب من القيمر؟ ألسنا نتهافت على شرائه من أم ريحان؟ لطمت أمي صدرها وصرخت بي دون أن تنتبه لدخول خالي إبراهيم: ماذا فعل معك ريحان ابن المعيدي، هل سحرك يابنت؟ وحين انتبهتْ تلعثمت وحاولت تغيير دفة الكلام إلا أنها فشلت، فقال لها خالي إبراهيم بغضب: سمِعتك، صوتك واصل لسابع جار·· صمتت أمي فتحرك خالي وأمسك بضفيرتي وراح يقررني وأنا أقسم كذباً بأن ريحان لم يلمسني، فقط قال بانه سيتزوجني، سحب يده من ضفيرتي وكوّر قبضته كما لو أنه يريد أن يلكمني فوضعتُ يديّ على وجهي، لكنه سحب يده والغضب يتأجج على وجهه ثم تركنا وهو يكز على أسنانه ويقول: ما بقي الا ابن المعيدي يتحرش ببناتنا، وخرج مهرولاً باتجاه بيت أم ريحان، وطبعاً لم أقل لأمي ولا لخالي عن علاقتي بريحان ولا عما حدث قبل أيام حينما كنت على ضفاف النهر، فقد انبثق ريحان مثل جني من قاع المياه وأفزعني فأردت الهرب لكنه خرج نصف عارٍ وقال ضاحكاً: لا تخافي، كنت أسبح على مقربة منك فغطست في الماء ووصلتك، نشف جسده بفانيلته وارتدى دشداشته وقال لي: أنا ابن الماء وبيوت القصب، هل سمعت ببيوت عائمة فوق الماء؟ ثم مشينا على ضفاف النهر الرملية وواصل كلامه: إنها بيوت أعمامي في الجبايش، عندما اتزوجك سنمضي إلى هناك وأريك حقول الرز والطيور الملونة التي تهاجر من بلدان بعيدة وتأتي إلى الأهوار باحثة عن الدفء، سنركب المشاحيف ونتجول بين القصب والبردي، وتتذوقين خبز(السيّاح) الحياة هناك جنة على الأرض والمرأة أكثر حرية من نساء المدن·


