كتاب "دراسات في تاريخ المغرب العربي المعاصر " ، تأليف د. محمد علي داهش ، والذي صدر عن دار مركز الكتاب الاكاديمي ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
قراءة كتاب دراسات في تاريخ المغرب العربي المعاصر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
سبل المواجهة
أصبح من المؤكد ان السياسة الثقافية / الاجتماعية للاحتلال الفرنسي كانت السبب الأساسي والمباشر في المشاكل الثقافية والاجتماعية التي راحت تأخذ بعداً سياسياً أيضاً (في الجزائر خاصة) مناقضاً للاتجاه الوطني العام. فالاحتلال الفرنسي هو الذي «ابتدع المسألة البربرية»(38) وأرادها أن تكون الأساس في التنوع والتعارض داخل المجتمع الموحد تاريخياً وكفاحياً وفي الجزائر والمغرب بخاصة.
إن التنوع داخل الوحدة الوطنية، والتمتع بالخصوصية الثقافية التي لا تتعارض مع الثقافة العامة وصيرورة المجتمع، أمر طبيعي، لكن الأمر غير الطبيعي، ان تأخذ الخصوصية الثقافية/الاجتماعية اتجاهاً معارضاً للاتجاه الوطني العام، ويقود ذلك إلى ان تأخذ هذه «الخصوصية» موقفاً معادياً ومؤثراً على استقرارية المجتمع ووحدته الوطنية في المجالات كافة. والامر المفجع ان يكون لهذه «الخصوصية» امتدادات دولية، وهي غربية على العموم ومعروفة باتجاهاتها ومواقفها غير النزيهة، لا بل العدائية المعلنة بشكل سافر، ضد الإسلام والعرب في السنوات الأخيرة بخاصة.
إن السياسة الاستعمارية الفرنسية القديمة / الجديدة في المغرب العربي، وما تمخض عنها من تاثير في بعض النخب الداخلية (المتفرنسة)، والتي وجدت لها دعماً من فرنسا (وغيرها من الدول الغربية) تحت غطاء الدفاع عن الحقوق والحريات والديمقراطية من أجل الإبقاء على الحضور الثقافي الفرنسي وديمومته بالاتجاه الذي يخدم الهدف الاستعماري القديم، افرزت نزعات ثقافية/اجتماعية في الجزائر والمغرب، وايضاً (سياسية) في الجزائر بخاصة، وهي «نزعة التعددية الثقافية» و«نزعة الاحياء الأمازيغي العرقي» و«نزعة ديمقراطية الحياة السياسية» و«نزعة شعبية أئتلافية»، والنزعات الثلاثة الأول لا تجد لها صدى إلا عند اقلية نخبوية بربرية، محدودة العمق الاجتماعي، في حين تأخذ النزعة الأخيرة عمقها الاجتماعي البربري المعبر عن الاصالة التاريخية والوطنية في الشعور والإحساس بالانتماء إلى هوية وطنية وقومية ودينية، أصبحت تعبر عن شخصيتهم التاريخية والحضارية والمستقبلية.
إن النزعة الشعبية الأئتلافية تتشكل من «عامة الناس والناشطين من الوطنيين والإسلاميين الذين هم … احرص على الارتباط بالمجال العربي الإسلامي وعلى استخدام اللغة والحروف العربية عند رسم الأمازيغية – البربرية – ويعتبر انتماؤهم إلى قبائل الأمازيغ –البربر- نوعاً من الخصوصية الثقافية التي تدخل في تكوين عناصر شمال إفريقيا ولا تمثل بالضرورة حساسية وعداء للعروبة والتعريب فضلاً عن الإسلام …»(39).
والجدير بالذكر، ان البربر لم يواجهوا عقدة من اللغة العربية وثقافتها وحضارتها، لقد تعاملوا معها من خلال الدين الإسلامي الذي آمنوا به، واسهموا في ترسيخه في مناطقهم في المغرب العربي الكبير، ووسعوا امتداده إلى مناطق إفريقيا جنوب الصحراء، وشاركوا في الفتوحات العربية الإسلامية في إسبانيا (الأندلس)، لا بل، قادوا الجيوش الإسلامية منذ ذاك التاريخ وحتى العصور الحديثة سواء في الأندلس أو في المغرب العربي أو في إفريقيا جنوب الصحراء، ضد الاعتداءات الأوروبية على بلادهم.
ومع بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر، تم توسيع مناطق احتلالهم لتشمل تونس والمغرب إضافة لموريتانيا، فقد وقف أبناء المغرب العربي جميعاً ضد الاحتلال الفرنسي وسياسته الاستغلالية والاستلابية للأرض والإنسان وهويته. وعليه، فقد كان رد الفعل المغربي طوال زمن الاحتلال الفرنسي وسياسته «مزدوجاً إسلامياً ضد التنصير والتبشير، وعربياً ضد السياسة البربرية» وأصبحت «العروبة والإسلام في المغرب العربي يحيلان إلى أمر واحد هو الهوية»(40).
إذن، دافع أبناء المغرب العربي جميعاً عن هويتهم الدينية والثقافية والحضارية الجامعة والموحدة ضد محاولات (الفرنسة)، وهذا الاتجاه «ظل موجوداً كشعور وإحساس بالاتنماء إلى شخصية تاريخية تكونت على قاعدة عربية إسلامية» ويضيف مالكي: [«فالدفاع عن الهوية قد شكل الأساس الايديولوجي والنضالي الذي على ارضيته ستبرز النوى الأولى للحركات الوطنية … مدافعة عن سيادتها الوطنية، وداعية ثانية إلى استحضار تراثها المشترك ومقومات انتمائها إلى المشروعية العربية الإسلامية لبلورة وعي جماعي بضرورة التنسيق والوحدة لمقاومة «الآخر» وصيانة «الأنا»](41).
إن الوحدة الثقافية العربية الإسلامية (مع احترام التنوع في اللهجات البربرية أو في غيرها) تبني الشخصية الوطنية الموحدة في إطارها الأوسع،وهي تبني «القوة النفسية» و«الأرادة القوية» التي تحصن الذات، وتشكل حاجزاً للحماية والدفاع عن «الهوية» بين أبناء المغرب العربي جميعاً ضد «الآخر» الغربي الذي يستهدف وجودنا وهويتنا الدينية والثقافية في الحاضر والمستقبل. عليه، فإن اللغة العربية وثقافتها، والدين الإسلامي وشريعته وعلومه، والتاريخ وعمقه، والتراث وكنوزه وعظمته، والكفاح المشترك والموحد عبر التاريخ واهميته، والشعور والإحساس الموحد وضرورة استمراريته واستنهاضه بتنمية الوعي بطبيعة «الآخر» وأهدافه، كلها عناصر تقوي جهاز المناعة في الذات الوطنية ضد «الآخر» المهاجم دوماً وبكل قواه وأساليبه المتغيرة عبر العصور، لتدمير الذات الوطنية والعربية الإسلامية.
ان الوعي العميق (ومن خلال فعاليات واجهات الرأي العام العربي جميعاً) بطبيعة ومخطط وأهداف الهجمة العنصرية والتعصب الديني، يدفعنا إلى ضرورة الحوار الداخلي وبناء الذات القوية المحصنة بـ «الهوية» والاعتزاز بها والدفاع عنها بكل الوسائل، فعلى اسوارها تتحطم مخططات ومشاريع الغرب التي تستهدف وجودنا القومي والديني والحضاري. وهذا البناء الذاتي، يتطلب تكثيف الجهود وتوفير الإمكانات المادية والمالية التي توسع دائرة التربية والتعليم والمراكز الدينية والثقافية، والحؤول دون «ثنائية اللغة» في المناهج ودون استمرار التأثير «الفرانكوفوني».
ان ثنائية اللغة، وتعلم أكثر من لغة، هي سمة الإنسان العصري، وهي مطلوبة وضرورية، ولكن عند الإنسان المختص بعلم من العلوم، وليس بالضرورة ان تكون هذه الظاهرة اللغوية والثقافية والحضارية عامة بين جميع أبناء الشعب. ان هذه الثنائية حتى بعد أكثر من نصف قرن على الاستقلال في أقطار المغرب العربي عامة (عدا ليبيا) يعكس فاعلية النخب الفرانكوفونية، ودفاعها عن انتماء ثقافي مغيب للهوية الوطنية، لا بل مخرب للهوية في ابعاده الحاضرة والمستقبلية. وعليه فالتمسك بالهوية الوطنية والعربية الإسلامية واعتبار اللغة العربية وثقافتها الأساس في بناء شخصية الفرد والمجتمع، يعد من المطالب المهمة، لا بل أكثر اهمية، من أجل الحفاظ على خصوصية الهوية وتحصينها وتمكينها من الانفتاح على الآخر دون خوف من التأثير السلبي أو محاولات الاحتواء أو الذوبان في «الآخر» اللغوي والحضاري. وان الشعور والإحساس العربي الواحد في كل مكان من الوطن العربي والذي كان عنوان مرحلة الكفاح ضد الاستعمار، وما بعد الاستقلال، يجب ان يستنهض، لأن اعادة انتاج هذا الشعور الجمعي أو الاقليمي أو الوطني الواحد، يحيل إلى استمرار خصوصية الهوية ومنعتها وقدرتها على المواجهة في الحاضر والمستقبل.