قراءة كتاب صور في ماء ساكن

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
صور في ماء ساكن

صور في ماء ساكن

كتاب "صور في ماء ساكن " ، تأليف سلوى جرّاح ، والذي صدر عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
 

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 5

في البيت وجدت اهتماماً من أمي التي أعجبتها فكرة مرافقة ابنتها الرسامة الصغيرة إلى المعارض التشكيلية· كانت تتابع باستمرار ما يجري في نقابة الفنانين العراقيين، التي كان مقرها على مشارف حي المنصور، من معارض فنية ومحاضرات وتصحبني إليها، وتطلعني على كل ما ينشر في الصحف والمجلات عن كبار الفنانين العراقيين، ونشاطاتهم الفنية· أبي هو الآخر اهتم بتطوري الفني· بدأ يزودني بكتب متنوعة عن لوحات مشاهير الرسامين العالميين، يشتريها لي من مكتبة (ماكينزي) في شارع الرشيد· كتب مليئة باللوحات لفنانين من عصور مختلفة· أحضر لي مرة كتاباً عن رسام عصر النهضة الشهير ليوناردو دافينشي يحمل غلافه لوحة الموناليزا وهو يقول: (هذه أشهر لوحة في العالم اقرأي شيئاً عن حياة مبدعها) تأملتها طويلاً، هذه المرأة الباسمة الساخرة الساحرة وذاك العالم المغرّب في خلفية اللوحة· حاولت أن أقرأ في الكتاب لأعرف سرها· لكن قدرتي على القراءة باللغة الإنكليزية، كانت محدودة، غير كافية لفهم كتب الفن التشكيلي بالإنكليزية· حين شكوت له قال بكل بساطة: (بدّوعة اضربي عصفورين بحجر· تعلمي إنكليزي وفن)·

وجدت نفسي بمساعدة القاموس أعتاد الكثير من الكلمات والعبارات المرتبطة بالفن التشكيلي· أحببت تلك الكتب وصرت أجلس لساعات أتأمل اللوحات على صفحاتها وأقرأ بعض الشروح عنها، وأتمعن في أدق تفاصيلها وأتساءل، ترى كيف تبدو اللوحة الأصلية بحجمها الحقيقي؟ وهل يمكن رؤية ضربات الفرشاة عليها كبعض اللوحات التي أشاهدها في المعارض الفنية؟ تمنيت أن أرى ضربات فرشاة دافينشي وبوتشيللي ومايكل أنجلو، بعد أن نجحت في فك بعض طلاسم اللغة الإنكليزية، وقرأت بعضاً مما كتب عن عصر النهضة (الرينيسانس) كما كانت تسميه الكتب· ثم استهواني رسام فرنسي من القرن التاسع عشر، اسمه، بيير أوغست رينوار·

كان في لوحاته شيء لا يقاوم، سحر وضوء ينير الوجوه· نساؤه جميلات بلا رتوش، مغريات دون ابتذال· أحببت لوحاته التي تضم مجموعات بشرية كبيرة تأكل وتتحدث وترقص وتتبادل كلمات الغزل والعتاب· كان كل ركن في لوحاته، لوحة صغيرة يمكن فصلها عما حولها· قرأت عن حياته وعن مدرسة الرسم التي ينتمي إليها، المدرسة الانطباعية، التي جاء اسمها من لوحة لكلود مونيه تحمل اسم (شروق شمس انطباعي)، عرضت في معرض شارك فيه الثلاثة، كلود مونيه وإدغار ديغا ورينوار· فقام أحد النقاد الذين لم يعجبه هذا الخروج عن النمط الكلاسيكي، بالسخرية من هذا الأسلوب في الرسم وأطلق عليه اسم (انطباعية) أحببت أسلوب الانطباعيين في الرسم، ضربات الفرشاة التي تميزها العين، والاهتمام بمصادر الضوء مما يعطي الإحساس بمرور الوقت، وحركة الناس· كل شيء في اللوحة يتحرك ويتكلم· لم يعودوا وجوهاً صامتة تقف بلا حراك ليرسمها الرسام، بل اكتشفت فيما بعد أن المدرسة الانطباعية انعكست على الموسيقى وأن كلود ديبوسي وموريس رافيل موسيقيان انطباعيان تماماً كالشاعرين الفرنسيين العظيمين بودلير ورامبو·

بحثت عن كتب أُخرى عن رينوار عَلّي أجد فيها المزيد من لوحاته، فكرت في تقليد أسلوبه في الرسم وألوانه وبقعه الضوئية· رسمت لوحة لأمي عن صورة فوتوغرافية وهي تجلس في الحديقة تحت شجرة كبيرة· حاولت أن أتلاعب بمصدر الضوء والألوان، لكن لوحتي جاءت معتمة رغم ما بذلت من جهد· مع ذلك أحبتها أمي كثيراً، ووضعتها في إطار ذهبي، وعلقتها في غرفة الجلوس، بل وأثارت إعجاب كل من رآها· كنت أيامها في آخر سني الدراسة في المدرسة الثانوية، تمنيت أن ينقدها أحدهم، ويرى عيوبها الفنية التي كنت أعرفها وأقر بها، حتى الست مها، قالت إنها محاولة جيدة جداً وطلبت مني عرضها في معرض المدرسة السنوي·

بعد سنين، والكثير من الخبرات والتنقل بين أساليب الرسم، وقفت مشدوهة أمام لوحات رينوار المعروضة أمامي في متحف اللوفر بباريس· رأيت لأول مرة اللون والضوء لا على صفحة كتاب وإنما على قماش بضربات ريشة الرسام الذي سحرني في بداية رحلتي مع الرسم· أحسست لحظتها أن العالم كله تلاشى، ولم يبق منه سوى وجوه النساء والرجال والحكايا الكثيرة عليها في لوحاته أمامي· همهمت: (كم انتظرت هذا اللقاء يا رينوار)·

خلال سني الدراسة الثانوية، تكونت لدي قناعة أكيدة أنني أريد أن أدرس الرسم، وأفهم قواعده وأصوله· صارحت أمي برغبتي في دراسة الفن، بدت سعيدة، بقراري وشجعتني، كان شرطها الوحيد، أن أكمل الدراسة الإعدادية ثم أدرس الفن على مستوى الدراسة الأكاديمية لأحصل على شهادة تؤهلني لخيارات عديدة في الحياة العملية في مجال الفن· كانت مثل كل الأسرة، مقتنعةً بموهبتي الطبيعية، وبضرورة دعمها بالدراسة·

أبي أيضاً لم يمانع، ولم يقل كلاماً يمكن أن يقال في مثل هذه المواقف، عن عدم جدوى الفن، وأنه يمكن أن يكون هواية لا أكثر، وأن علي أن أصبح طبيبة أو مهندسة أو محامية أو أي مهنة (محترمة) أبي كان يريد لابنته أن تحقق ما تحلم هي بتحقيقه، لا أن تتحقق أحلامه هو فيها· وبما أن الفن هو الحلم في حياتها، فلتكن رسامة تفهم مهنتها وتعرف أصولها· ضمني إليه وهو يقول: (بديعة عبد الرحمن الكيّال، رح اتصير فنانة معروفة، ومن يسألوني عنها رح أقول إنها كانت ترسم من يوم ما راحت للروضة) صمت لحظة وعاد يقول وابتسامة حلوة تضيء وجهه الجميل: (تره النخلة اللي رسمتيها أنا محتفظ بيها مع أوراقي الرسمية المهمة، يجي يوم وأنطيج إياها)·

بعد سنين، حين جاءت أمي تزورني في باريس بعد وفاته، حملت مها ضمن ما حملت من أوراق لوحة النخلة التي رسمتها وأنا في الروضة·

الصفحات