كتاب "صور في ماء ساكن " ، تأليف سلوى جرّاح ، والذي صدر عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
قراءة كتاب صور في ماء ساكن
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
![صور في ماء ساكن صور في ماء ساكن](https://files.ektab.com/php54/s3fs-public/styles/linked-image/public/book_cover/mu509f.jpg?itok=yP1N1xWB)
صور في ماء ساكن
كانت نازانين خان جميلة ببشرتها البيضاء الصافية حد الشفافية وشعرها الذهبي الذي يشبه شعر سورغول، تلفه في خصلات على لفافات كبيرة فيصبح سرحاً منساباً، وحين ترتدي الزي الكردي التقليدي بألوانه الزاهية والأقمشة البراقة التي تدخل في تصميمه تبدو مبهرة، وكأنها لوحة أحد الرسامين الكلاسيكيين، في جمالها وهدوئها ورقتها، حتى إني تمنيت أن أرسمها لكني خفت أن لا يعجبها رسمي· في أحد الأيام تشجعت وعبرت عن إعجابي بزيها· قالت إنه زي قريتها العمادية الذي يختلف عن الزي الكردي لمدينة أربيل· حدثتني عن الحياة في قريتها الجبلية حيث نشأت، وبيت جدتها لأبيها الذي يستكين على حافة وادي أخضر· صمتت لحظة سرحت بعينيها وكأنها تستعيد في ذاكرتها ما تركت وراءها· عادت تقول: (أنا لا أحب العيش في مدينة كبيرة مثل بغداد، لكن عمل محمد جاء بنا إلى العاصمة، شنسوي شوية شوية نتعود على بغداد)·
كانت المرة الأولى في حياتي التي ألتقي إنساناً رحل عن أرضه بسبب ظروف الحياة· مع السنين صار الرحيل عن الأوطان، جزءاً أساسياً من حياة العراقيين، بعضهم ظل مثل نازنين خان يحن لعالمه الذي يعرف كل خباياه، ولا يحسن العيش في عالم بديل يكاد يفتقد القدرة على التلاقي معه، والبعض الآخر أحب واستوطن ووجد ما يبحث عنه في الوطن البديل· كانت عواطفها تفيض أحياناً وهي تتحدث عن قريتها وبيتها ومدرستها وتصف كل تفاصيل الحياة التي اعتادت· كانت تقول بابتسامة حزينة، إن تشبثها بالحديث باللغة الكردية مع أفراد أسرتها هو جزء من إصرارها على الحفاظ على هويتها· سورغول كانت تتحدث مع أمها وشقيقها الصغير دلير، باللغة الكردية بطلاقة ويسر، تماماً كما تتحدث بلغة عربية سليمة· أحياناً كنت أستغرب تفوقها في فهم غوامض قواعد اللغة العربية، وحين أنهيت كتابي هذا، طلبت منها أن تراجعه لي قبل أن أدفع به للمطبعة·
مع الأيام توطدت العلاقات بين أسرتينا وصارتا تتزاوران باستمرار· أحبت أمي نازنين خان، ووجد أبي مع كاكا(5) محمد كاوه، الجيولوجي، الذي يعمل في شركة نفط العراق، شركة أجنبية تلعب دوراً أساسياً في صناعة النفط في العراق، أرضية مشتركة في الكثير من تفاصيل الحياة· كانا يلعبان معاً طاولة النرد ويتضاحكان من ترديد الأرقام باللغة الكردية، دوا وبنج وشيش· ثم يتحدثان عن الأوضاع السياسية في العراق· كان والد سورغول متحمساً جداً لفكرة أن يصبح نفط العراق بأيد عراقية، ويؤيد إجراءات الزعيم عبد الكريم قاسم في وضع حد للاحتكارات النفطية الأجنبية في العراق، (بريطانيا وفرنسا وهولنده شعليهم بنفطنا، ولا تنسى من يملك الخمسة بالمئة منه، مستر كولبنكيان) كان أبي يستمع إليه بهدوء واهتمام خاصة حين يحدثه كخبير جيولوجي عن احتياطي النفط الهائل في العراق، في الشمال والجنوب وأطماع الدول الغربية بهذه الثروة العظيمة· كان والد سورغول يسرح بعينيه ويهمهم: (الغرب صعب يتخلى عن العراق الذي كان دائماً محط أنظاره· لعد ليش استعمرونا)؟ فيرد أبي وهو يعبث بحبات مسبحته: (والله صدق وعمرهم ما رح يتركون العراق يعيش بسلام)·
أمي أيضاً كانت سعيدة بصداقة الجارة اللطيفة الهادئة، وبالعلاقة الحميمة التي تجمعني بسورغول، وتعتبرها الأخت التي حرمت منها· تفوق سورغول في الدراسة وكونها دائماً الأولى على الصف، جعلها صاحبة مكانة متميزة، عند والدتي المدرسة الدربة· كنت أحب أن أراجع معها الدروس أيام الامتحانات· وحين نتعب من الدرس، نتحدث عن كل ما يخطر لنا على بال، المدرسة والمعلمات والدروس والحياة والأحلام والطموحات· ثم تصدر أوامرها المشددة بالعودة إلى مراجعة الدروس· حتى بيبي أم عبد الرحمن أحبت سورغول· كانت تقول عنها: (أحسن صديقة بنت ناس أوادم ومحبوبة ولطيفة ومتفوقه في الدراسة)·
ترافقنا أنا وهي في كل مراحل الدراسة حتى المرحلة الجامعية· وتقاسمنا الأفراح والهموم· عرفنا كيف نصون صداقتنا ونبقي على نفحة الحب بيننا رغم المتغيرات فينا وحولنا· باعدت بيننا الأيام ثم جمعتنا، في بلاد غريبة بعد أن تلاشت ملاعب الطفولة والشباب، وصار الوصول إليها عصياً·