أنت هنا

قراءة كتاب التفاحة النهرية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
التفاحة النهرية

التفاحة النهرية

التفاحة النهرية، مجموعة قصصية للكاتب الفلسطيني محمد نفاع، الصادرة عن دار راية للنشر والتوزيع- حيفا، تحمل في طياتها ذكريات طفولة الكاتب من حياة القرويين مؤكدا ان مأساة الترحيل والطرد من البلاد وآلاف المواطنين يمرون من وسط بلده بيت جن في طريقهم الى لبنان ما ز

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 4
هبّ الجمع بانفعال وجلبة على هدير سيارات مقتحمة من صفحة الجبل، توتّر حبلُ الذكرى وانقطع، كيف هذا ؟ مرّ الوقتُ ، والفجرُ يُطلّ.
 
_"قوموا! وقعت.. وين النشاما ؟"
 
_ " اتصلوا في البلد".
 
عشرات السيارات العسكرية تحبو وتتمايل على الدرب الوعري مُثيرةً زوابع الغبار.
 
_ "طوّقوا الدرب من الجانبين، اروجوا !!"
 
كنا عشرات قليلة من أهل البلد، طار النوم بذهول، والحجارة والعصي باردةٌ رطبةٌ بالندى. وفي الجسم انقباض. يبدو أن دبّة الصوت تنطلق في البلد المتأهبة، شعّت الأنوار في بعض البيوت وتلتها العشرات والمئات. قامت البلد على حيلها في دغشة النهار. تقدّم المعتدون في رتل طويل عنيد، فتطايرت الحجارة في الهواء غبراء صيّاحة. كانت السيارات هدفاً جيدا للإصابة، فتهشّم الزجاج ورنّت مئات الحجارة القاسية على الحديد في رشقات متواصلة مِدرارة.
 
فظيعٌ هذا السلاح؛ الحجر، في هذا الوقت الحجري. تفرقعت إطارات وأطلقت عيارات في الجو، بعق أحدهم وولول آخر. ألقيتْ قنابل الغاز والدخان ليختلط بالغبار الفوار، ازداد ضرب "الجمش" المُزغرد في نافورة مُقوّسة محنيّة.
 
وعلى الدروب الآتية من البلد صخبٌ مُختلط مزوبع، سحب دخانية، غبار، جرارات وسيارات صافرة مزمجرة ومُشاة وهدير. قامت القيامة في البلد، والأنفاس كأنما تلامس الظهور وتعصف ببرودة الفجر اليمامي.
 
_ "وصل الفزيع !! ردّوهم، كونوا قدّها.."
 
اغتصبت هراوات الشرطة وانتقلت الى ايدي الناس، وظلّت التروس المعدنية تتلقى الضربات المتهافتة بأنين. سال دم غير قليل، وتشوّهت وجوه.
 
جاء الناس من كل الجهات، والدروب والأحراش تقذف وتدفع الرجال والنساء والشيوخ والأولاد بصراخ ومسبّات وهتاف نخوات:
 
بلدنا الأبيّة مين يعادي رجالها..
 
بالروح بالدم..
 
وين راحت النشاما !
 
قويّة وممشوقة هذه الكلمة: النشاما.
 
لاذ الرتل الغادر بخزيٍ وعار، واللغط والصياح يشق الجو المنور. حلّقتْ طائرة حوامة، تتمايل وتخفض غافّةً بصدرها الضيّق وذيلها الطويل، وهدير حاد مرنان، ووجه الطيار حاقد بارد، فانفجر نحوها بركان من الحجارة والشتائم والبصاق والحركات التي تليق بها.
 
هرب المعتدون وطوردوا حتى غابوا عن الأنظار، ليظلّ المكان نظيفاً منهم، مُهشّمًا موشّحًا مكلّلًا بالكدمات والمقاومة, معرض غريب مهيب من الناس والأدوات، صخور، عصيّ غشيمة من السنديان المبارك الغويان، سكاكين ومدقّات، مناجل وبلطات وسلاسل وقطع حديد ووجوه مُقنّعة ونقابات ملفوفة، ضحك ونخوات وقفشان وجرحى ودم وإسعاف وحديث، وعتاب وقصص وحكايات ومقاطعات وزغاريد وعرق وأهازيج ونظرات.
 
الأمهات يعانقن الأبناء. لو يقوم عالم هو عالم الأمهات، العالم الجبّار،عالم الحب والحنان والغضب، عالم الأمومة العالية الشمّاء، يعمل ويربّي ويرتّل ويدافع في تهليلة دافئة عذبة متواصلة كاسحة.
 
تجمهر الحشد في أنهار صاخبة مندفعة من فم الوعر والدروب الى البركة الجافة الرحبة المتشققة، سيارات وجرارات ودراجات وبهائم ومواقد نار وألوف الناس ومعهم الكثير من القرى المجاورة في موقع واحد وكتلة واحدة، وأوعية الماء والطعام. عرائس من خبز الصاج وشطائر، والناس يلوكون ويتحدثون ويتعارفون، والشيوخ يلاطفون الأولاد ودموع الأمل والحنان تترقرق في عيونهم الغائرة كالنجوم البعيدة.
 
وتحولت البركة الجافة وهذه الكتلة المشعّثة المترامية الهوجاء الى بسمة رابضة على وجه الجرمق الوقور.
 
نُصبت حلقات الدبكة على أنغام الشبّبة والأرغول والقهوة المُرّة تُدار على الأوادم.
 
ها هي تدير الماء والنقل على الناس. قمحيّة بخدود حمراء، عرِقة الجبهة عريضة الجبين، وعينين واسعتين حييّتيْن ولباس أسود طويل، وشعر شارد مشقوع مُتهافت على الأكتاف والظهر، وغزلت في مخيّلتي خيوط الذكريات.
 
_ "باين التقينا هون.. قلت باحترام وغيرة".
 
_ "معلوم.. على بالك تشرب ميّ ؟ تفضّل !!"
 
_ " أيوه على بالي.. نمت عشطان في عب شجرة السنديان.."
 
_ " خُذ إشرب واسكت..هسّ ولا كلمة!!"
 
وخيال بسمة يلوح على وجهها. وفي عينيها بريقٌ وكلام. كانت اليوم أجمل وأكمل، وهذا اللقاء أجمل لقاء.

الصفحات