كتاب " مذاهب الفكر الأساسية في العلوم الإنسانية " ، تأليف بوبكر بوخريسة ، والذي صدر عن منشور
قراءة كتاب مذاهب الفكر الأساسية في العلوم الإنسانية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
وفي هذا المستوى يتموقع أحد الإسهامات الكبيرة التي قدمها م. فيبر (Max Weber 1864-1920) الذي يتمثل في إعطاء محتوى سوسيولوجي للسببية الأخلاقية التي تؤثر في الوقائع الاجتماعية، خاصة من خلال أطروحته عن دور الأخلاق البروتستانتية في تطور نظام الرأسمالية، رغم أنه لا يمكننا تقرير ذلك إلى أقصى حد. في الحقيقة، من وجهة نظر أمبيريقية، لا يبدو الأمر صعبا جدا لكي نكشف عن بعض التصورات الأخلاقية التي تصاحب السلوكيات الإنسانية. وهذا هو تحديدا ما قام به فيبر، عندما اضطلع بتحليل “العلاقة بواسطة القيم” والمذاهب الأخلاقية التي تغذي رواد ودعاة الرأسمالية: التقشف والزهد الدنيوي، الاستعمال العقلاني للثروات وتثمين الجهد... لكن عندما يتعلق بالقيمة الأخلاقية النهائية لهذا الميل، يصبح حظ الباحث السوسيولوجي ضعيفا في تأكيد ذلك الميل. لأن أولئك الأشخاص المعنيين بالأمر يعترفون بدورهم، أنهم يجهلون ما هو مصير ومآل تلك القرارات الربانية. لكن هذه المقاربة تعكس على الأقل، وجود إمكانية لكي نلاحظ الأخلاق في تعبيرها المذهبي وانعكاساتها الملموسة، دون أن يتناقض ذلك، لا مع قانون د. هيوم [لأننا لا نستخلص من تلك الملاحظات أية نتيجة في شكل عبارات “واجب - وجود”] ولا مع مكانة العقل العملي، لأننا لا ندعي مطلقا أننا نتوصل إلى معرفة أمبيريقية تتعلق بالإرادة الطيبة.
في النهاية، إذا كان فيبر في الوقت نفسه ينظر للفعل المسمى “عقلانيا” الذي تمثلت شكلانتيه في تطابق الوسائل مع الغايات المفيدة جدا [من خلال تطور “نظرية الاختيار العقلاني” (Théorie du choix rationnel)] فقد حجب مساهمته الأساسية حول وجود عقلانية أخلاقية، تؤثر في سريان الفعل ونتائجه. لكن في نهاية القرن العشرين، استعادت فكرة العقلانية الأخلاقية حيويتها تحت تأثير كتاب آخرين عديدين ومختلفين في علم الاجتماع، من أمثال ج. هابرماس (Jürgen Habermas) ور. بودون (Raymond Boudon) أو في علم الاقتصاد عند كتاب أمثال أ. هيرشمان أو أمرتييا ك. سن (A. Hirschman ou Amartya K. Sen) والذين يشككون في مدى تفوق النموذج النفعي والأدواتي للعقلانية التطبيقية. لكن، بالنسبة للغالبية العظمى من هؤلاء المؤلفين الذين يهتمون ويحرصون على إعادة إدخال الأخلاق في تحليل الظواهر الاجتماعية، فإن “الحرية” الفيبرية اتجاه القيم، صارت أقل فأقل تقبلا. وذلك لأن غايتهم الأساسية تتمثل في معرفة، كيف يمكن لذلك الاتجاه الذي يعتبرونه أخلاقيا، أن يؤثر على المجرى الفعلي أو المأمول للأشياء والذي يأخذ أسبقية على الحوافز أو الأفكار التي ليس لها طابعا أخلاقيا.
ليس من السهل إذن، أن نقيم تمييزا واضحا بين الأفكار التي تعود إلى ميدان الأخلاق والأفكار التي لا تعود إليها، مثلما تشهد على ذلك الإشكالية التي كانت في صلب عمل إ. دوركايم (E. Durkheim 1858-1917) تحت مسمى “حتمية الظاهرة الأخلاقية”. لقد انشغل دوركايم في الواقع، بالتمييز بين القواعد الأخلاقية الخالصة والقواعد الاجتماعية التي ليس لها سوى طابعا تقنيا. ولهذا الغرض، فقد اقترح نوعا من الاختبار أو “الكاشف” الذي يتمثل ببساطة في ملاحظة الطابع “التركيبي” (وليس الطابع التحليلي) للرابطة التي يقيمها الجزاء الاجتماعي بين الفعل ونتائجه في صورة توبيخ، استنكار أو عقوبة. هكذا، كان دوركايم يعتقد أنه عثر [“بواسطة تحليل أمبيريقي صارم”] على المفاهيم الكانطية عن الواجب والالتزام التي تشتق سلطاتها من المجتمع، بدلا من النظام الميتافيزيقي المبهم. لكن مع الأسف، فإن المقياس الدوركايمي لا يسمح لنا بأن نميز بين الظاهرة الأخلاقية والوقائع البسيطة للهيمنة والشرف. وذلك لأن التوبيخ والعقوبة، يمكنهما بصورة عامة - حسب المجتمعات والظروف - أن يعودا إلى القواعد والحوافز التي ليست مسائل أخلاقية بالضرورة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، مثلما يعتقد ذلك دوركايم نفسه، تفترض الأخلاق أيضا نوعا من المرغوبية في عمل الخير الذي لا يمكن أن نشتقه مباشرة من الواجب.