كتاب " مذاهب الفكر الأساسية في العلوم الإنسانية " ، تأليف بوبكر بوخريسة ، والذي صدر عن منشور
قراءة كتاب مذاهب الفكر الأساسية في العلوم الإنسانية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
عندما تتم مقارنة بعض تلك الأعمال بأعمال سيكولوجيا النمو، يمكننا أن نكوّن انطباعا متناقضا [بشكل ملفت للانتباه] بين حرصها على المضامين الـ“ملموسة”، مثل: التودد، الشفقة، الغيرية، الوفاء والعلاقة الاجتماعية، الخ أو بالعكس حرصها على التراتبية الشكلية والفكرية في الأعمال السابقة. لكن يمكننا في الوقت ذاته، أن نتساءل إلى أي حد يمكن للطيبة البسيطة بمفردها أن تكون كافية، لكي تصنع الأخلاق في غياب تفكير مستقل عن الذات. إن الخبر الجديد [إذا تم تأكيده] الذي يفيد بأن التطور الطبيعي عند الآدميين [كما عند بعض الأنواع الحيوانية الأخرى] يمكنه أن يحفز بعض الاستعدادات الطيبة قبل - الأخلاقية، لا يكفي بالطبع لكي يجعل من التطور الطبيعي ضمانة للتقدم الأخلاقي. وللأسف، فإن هذا التطور الطبيعي يفسر الاستعدادات الرديئة والمواقف الحاسمة والحتمية بالنسبة للإنسان الأضعف. وبعد كل ذلك، فإن النزوع الطبيعي أو الأفضلية التكيفية بالنسبة لخاصية معينة، لن تكون كافية على الإطلاق لتنشئ الأخلاق، بغض النظر عن الحكم الانعكاسي الذي قد نصدره بشأنها.
وبهدف توضيح الأصل الانعكاسي الذي يخص بعض القيم، فقد استعاد الفيلسوف ب. ويليامز (Bernard Williams 1929-2003) منهجا نشوئيا أخلاقيا، كان ف. نيتشه (F. Nietzsche 1844-1900) هو رائده. لقد بين ويليامز هكذا، أنه ليس بإمكان أي مجتمع أن يستغني عن قيمة الحقيقة. لكن مع ذلك كما يعتقد، فإن هذه القيمة لا تنحدر فقط من تاريخ وظيفي للحياة البشرية ولم تتمكن من فرض نفسها وتستقر، إلاّ لأننا اعترفنا بقيمتها الانعكاسية الملازمة، مقارنة بالحاجات والغايات الإنسانية القاعدية. وإذا كان ويليامز على حق فهناك إذن، وسيط انعكاسي بين الاستعدادات الطبيعية، سواء كانت طيبة أو سيئة وممارسة الأخلاق.
إن العبرة التي يمكن استخلاصها من معالجة مبحث الأخلاق، من طرف العلوم الإنسانية المعاصرة هي أن المعرفة ذاتها ترتبط بنوع من علم اليقين (Critériologie) الأخلاقي الذي لا يبحث عن تحديد الطيب أو العادل في عموميتهما الكبيرة جدا. لكنه يهتم رغم كل ذلك، بتحديد الشروط التي تتمتع بحظوظ أوفر للكشف عنهما أو بالعكس عن حلّهما. إن أفضل توضيح لهذا الاتجاه هو دون ريب، العبرة التي تنشأ من التجربة الشهيرة التي أجراها س. ملغرام (Stanley Milgram 1933-1984) التي يمكن أن نعثر من خلالها على أشخاص عاديين، يكلفون بتسليط صدمات كهربائية أكثر فأكثر شدة على مرضى [كان هؤلاء المرضى في الحقيقة، أشخاصا متواطئين مع صاحب التجربة] باسم تجربة سيكولوجية مزيفة حول الذاكرة الألسنية المباشرة. لقد رأى كثير من المؤلفين في هذه التجربة دليلا حيا، على ما تعلمناه من التاريخ الحقيقي؛ أي القدرة الخارقة التي تتميز بها العادة عند البشر على الخضوع إلى قوانين قاسية ومذلة. فقد تم الحديث هنا عن الشروط التي تدفع بالإنسان إلى الانصياع إلى سلطة سيئة، مثل: غياب أو حضور التفاعلات التدريجية في القوانين، الخ. لكن هناك درس أقل وضوحا، يتمثل في أن هذه التجربة [كما هو شأن غالبية التجارب من النوع ذاته] تفترض بالضرورة تصورا معينا عن ما هو شر [ويجب إذن، عدم تقبله من طرف الإنسان العادي]. وهنا إذن، تثير المعرفة المسبقة عن الشر التساؤل والبحث عما هو قابل للممارسة، عادي أو مثلما تقول هـ. آرندت (Hannah Arendt 1906-1975) ما هو “مألوف” أو موضوع تحريم أخلاقي. لقد بينت عدد من الأعمال في السيكولوجيا التجريبية، مدى وتعددية الاستراتيجيات التي يمكن أن نوظفها لتقليص الخطر الذي تمثله بعض المآسي والمظالم، بشأن ما اصطلح على تسميته “الاعتقاد بوجود عالم عادل”.
عندما نبحث عن تفسير الأخلاق [ليس وحسب عن آثارها] أسبابها أو أصل نشأتها وكذلك، عن افتراضاتها، فنحن مجبرين على التفكير في الأجهزة والمحرمات الأخلاقية القاعدية التي تسمح لنا مثلا، بـ“التعرف على الغشاشين” أو تطبيق المعايير القانونية التي باستطاعتها أن تتقاطع بين مجتمع وآخر. يبدو إذن، أنه لا يمكننا أن ننكر كيف أن معظم الثقافات الإنسانية رغم تباينها، تتفق على الأقل في المواقف العادية لمنع أفعال: القتل، الاغتصاب، السرقة، الشتم أو تجاوز قواعد الوفاق الاجتماعي... ومن جهة أخرى، فإن إمكانية الوفاق الأخلاقي هذه، تخلق الالتزام الأخلاقي للباحث في العلوم الإنسانية من أجل أن يشخص بشكل انعكاسي ممارساته في البحث أو التجريب ويبحث عن مناهج كشف الخلافات العمومية.