أنت هنا

قراءة كتاب دور الأديان في السلام العالمي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
دور الأديان في السلام العالمي

دور الأديان في السلام العالمي

كتاب " دور الأديان في السلام العالمي " ، تأليف د. محمد سعيد رمضان البوطي و د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 4

والكلمة الجامعة المعبرة عن العبث بالسلم والتآمر عليه، في القرآن، هي كلمة (الظلم). والكلمة الجامعة المعبرة عن حماية السلم والسهر على رعايته وحمايته، في القرآن، هي كلمة (العدل).

فحيثما أمر القرآن بالعدل، وكلما أمر بتنفيذ أحكامه، فهو أمر منه بحماية السلم العالمي وإقامة دعائمه. ومن آياته التي يأمر الله فيها بإقامة موازين العدل قوله عز وجل: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 5/8] ، ومنها أيضاً قوله عز وجل: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 6/152] .

وحيثما حذر القرآن من الظلم ونهى عنه، فهو نَهْيٌ للناس عن العبث بمقومات السلم وأسباب الأمن، فمن ذلك قوله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ *} [الأنعام: 6/82] .

إن السلم في ميزان القرآن وحكمه، أقدس ثروة يجب أن تحافظ عليها المجتمعات. أرأيت إلى لصوص توجهوا إلى ثروة مالية يريدون اقتناصها من أصحابها، أو إلى عِرْض يريدون استلابه والعدوان عليه، أو إلى أرض يريدون اغتصابها من ملاكها، إن هذه كلها ثروات مقدسة، ولكنّ ما هو أقدس منها كلّها، السلم الذي تتمتع به الأسرة الإنسانية.

فإذا كان العدوان على الثروات المالية، وعلى الأوطان، وعلى الأعراض، يستوجب - بإجماع العالم - إنزال العقوبات الصارمة بالمتورطين فيها، فإن المتربصين بسلم المجتمعات الإنسانية والمعتدين عليه، يجب أن ينالهم - وبإجماع العالم كله - من العقاب ما يتجاوز عقاب سائر المجرمين.

ذلك لأن غياب السلم هو المصدر لتلك الجرائم التي يجمع العالم على ضرورة إنزال العقاب بمرتكبيها. فمن تساهل في الوقوف في وجوه العابثين بها والمتربصين بها، فلن يتأتى له القضاء على سلسلة الجرائم الأخرى.

من هنا كان سلام الأمة أقدس ما تجب حمايته والمحافظة عليه. والنص القرآني المعبر عن ذلك صراحة، قول الله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ *} [البقرة: 2/208] .

ومن هنا كان العدوان على سلام الأمة أشنع جريمة تستأهل العقاب الصارم، في قرار الإسلام وحكمه. والنص القرآني المعبر عن هذه الحقيقة قول الله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ *} [البقرة: 2/190] .

لعلك تسأل، أو تستشكل فتقول: إن الآية التي استشهدت بها على قدسية السلم ووجوب حمايته، تخاطب بذلك المسلمين أي المؤمنين دون غيرهم. أليس في هذا ما يدل على أن القرآن إنما يعنيه السلم الذي ينبغي أن يمتد رواقه على المسلمين، دون أن يبالي في ذلك بغيرهم؟..

والجواب أن من المعلوم بداهة أن مدرساً صاحب اختصاص علمي، إنما يبدأ تدريسه بتعريف الطلاب على اختصاصه العلمي مقروناً بالبراهين، حتى إذا عرفوا ذلك وأيقنوا بمكانته العلمية فيما يريد أن يعلمهم إياه، أخذ يخوض بهم في مسائل ذلك العلم.

إن المراد بلا شك، تحقيق النفع العلمي لهم جميعاً، ولكن سبيل ذلك هذا التعريف الذي لابدّ منه أولاً. فمن أعرض عن المقدمة التي يعرف فيها الأستاذ على مكانته العلمية وشواهد اختصاصه العلمي، فلا ريب أنه لن يكون مشمولاً بالخطاب التعليمي للمدرس، غير أن الذي أخرجه عن شمولية الخطاب التعليمي ليس المدرس، بل هو الذي أخرج نفسه عن ذلك الشمول عندما أعرض عن المقدمة التي واجه بها المدرس طلابه؛ إذ كشف لهم عن قدراته العلمية والشهادات التي تنطق له بذلك.

إن الله عز وجل دعا عباده جميعاً عن طريق رسله وأنبيائه، إلى أن يتأملوا في الدلائل العلمية على وجود صانع حكيم عليم قادر لهذا الكون، وأن يؤمنوا بألوهيته إلهاً واحداً عليهم، ويؤمنوا بعبوديتهم ومملوكيتهم له، كي يثقوا بصحة التعاليم التي يواجههم ويكلفهم بها. فكان في الناس من استجاب فتأمل ثم آمن وأيقن.. وكان فيهم من أعرض وتشاغل واستكبر.. إن من البداهة بمكان أن التعاليم الإلهية إنما توجه إلى أولئك الذين عرفوا ألوهية الله للكون وربوبيته لهم، لأنهم هم المهيؤون للإصغاء إلى تعاليمه وللاستجابة لأوامره. أما الآخرون فإن من العبث مخاطبتهم بما لا يؤمنون به، لأنهم لم يؤمنوا بعدُ بمن هو أهل لفرض أحكامه، وبمن هو المالك لرقابهم والمتحكم بحياتهم ومصيرهم..

إذن فالتعاليم الإلهية موجهة في الأصل إلى الناس جميعاً، ولكن سبيل وصولها إليهم بالإذعان والقبول، أن تمرّ بقناة الإيمان بصاحب هذه التعاليم، فإن لم تمرّ بهذه القناة مع التصديق والإذعان، غدت مخاطبتهم بها عبثاً تنأى عنه الحكمة وموازين الرشد.

إذن فقد انتهينا إلى يقين بأن كل من قاوم ميزان العدالة بين الناس، واستمرأ الظلم وأسبابه، فقد أعلن بذلك عدوانه للسلام وحاول استجرار المجتمعات الإنسانية إلى التهارج والحروب، كما انتهينا إلى أن كل من سار في طريق العدل وتمسك بضوابطه لابدّ أن يصل إلى واحة السلم، شاء أم أبى.

***

فهذا الذي تمَّ بيانه، يضعنا أمام المعنى الذي يتضمنه (الجهاد القتالي) الذي شرعه الإسلام، ويكشف لنا عن أدبياته وعن الغاية التي شرع من أجلها.

إن وظيفته كبح جماح البغي والعدوان، وحماية السلم الاجتماعي من كل ما قد يتهدده من سهام الكيد والإجرام. وإن وقائع التاريخ خير شاهد على ذلك.

وحسبك أن تعلم ما هو مقرر في الشريعة الإسلامية بالإجماع، من أن السلم على الأرض هو الأساس الذي يجب ترسيخه والسهر عليه، وأن الحرب حالة عارضة لا تشرع إلا لحماية السلم مما قد يتهدده، ولإلجاء البغاة والمعتدين إلى الرجوع عن غيهم وبغيهم والركون إلى واحة السلم. يدل على ذلك قول الله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 8/61] ، وقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 9/6] .

في الناس من يتجاهل هذه الحقيقة، ويقول: إن أول ما يبطل هذا الذي تقوله عن مبررات الجهاد في الإسلام، اسم «الغزوة» أو «الغزوات» التي أطلقها المسلمون أنفسهم على الحروب التي شنها محمد على الآخرين. وهل الغازي إلا ذاك الذي يفاجئ الناس بالحرب والقتال، وهم آمنون مسالمون؟

والجواب أن كلمة «الغزوة» أعم من أن تدل على هذا المعنى الخاص الذي لم يوجد في أي من الغزوات التي قام بها رسول الله . إن موقعة الخندق تسمى غزوة، وإنما أقبلت أحزاب البغي من جهات شتى تقاتل رسول الله والمسلمين في عقر مدينتهم.

وإن موقعة أُحد أُطلق عليها اسم الغزوة، وإنما أقبل فيها المشركون إلى المدينة لقتال المسلمين، وليثأروا لقتلاهم في معركة بدر.

ومعركة بدر تسمى غزوة وإنما أقبل فيها صناديد الشرك من مكة إلى المدينة قائلين: «والله لا نرجع حتى نَرِدَ بدراً ونقتل محمداً وصحبه، ونقيم ثلاثاً فننحر الجزور ونطعم الطعام ونُسقَى الخمرَ وتعزِف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجَمْعنا فلا يزالون يهابوننا» (1) .

وموقعة حنين سميت هي الأخرى غزوة، وإنما سببها اجتماع قبيلتي هوازن وثقيف واتفاقهم على التوجه إلى حرب رسول الله، بعد أن توغرت صدورهم للنصر الذي آتاه الله رسوله والمؤمنين بفتح مكة، فحشدوا حشوداً كبيرة ونزلوا بأوطاس، وأجمعوا المسير من هناك إلى رسول الله، فخرج إليهم رادّاً لبغيهم، مدافعاً عن السلم الذي رفع لواءه في مكة أمام المشركين.

وموقعة «ذات الرقاع» سميت هي الأخرى غزوة، وإنما كان سببها الغدر الذي مارسه بعض قبائل نجد والذي تجلى في مقتل الدعاة السبعين الذين أرسلهم رسول الله إلى نجد دعاةً إلى الله معرفين بالإسلام، مسالمين لا يريدون شراً بأحد. فكان من مقتضى العدالة والدفاع عن الحق معاقبة أولئك القتلة والاقتصاص منهم.

وقد سميت موقعة خيبر هي الأخرى غزوة، وإنما كان سببها ما علمه رسول الله من أن يهود خيبر قد اتفقوا مع قبيلة غطفان على حرب المسلمين، وراحوا يأخذون أهبتهم لذلك، فقطع رسول الله الطريق بين خيبر وقبيلة غطفان، ثم سار إليهم وعاجلهم الحرب التي عزموا عليها مع قبيلة غطفان.

أجل.. الغزو يحمل معنى من معاني الاقتحام.. ولكن ما أعدل الغزو عندما يكون اقتحاماً لأوكار المعتدين والمخططين للوقيعة والشر، وقد أوضحت لك مظاهر ذلك. فلا يتقربنّ شخص محدود في فهمه للعربية ذو ثقافة سطحية في فهم السيرة النبوية، بالمجاملة والمداهنة، إلى خصوم هذا الدين وأهله، داعياً إلى طي الحديث عن غزوات رسول الله، والإقلاع عن الاحتفال بذكرياتها؛ لأنها تحمل إلى العالم تهمة العدوان من رسول الله على من يغزوهم في عقر دارهم.

وهذا الذي أوضحناه من معاني الغزوات التي قام بها رسول الله ودوافعها، وهي معانٍ يعتزّ بها العدل، وتخفق فيها راية السلم، أقول: هذا الذي أوضحناه لما تم من ذلك في عهد رسول الله، هو ذاته الذي يتجلى في عصر الفتوحات الإسلامية بعد رسول الله.

إن مصر والشام، كان كل منهما إبان بعثة رسول الله مستعْمَرة من قبل الرومان. وقد عانت المسيحية، ولا سيما اليعاقبة، تحت نير الاستعمار الروماني، ويلاتٍ تشيب لذكرها الرؤوس في كل من مصر والشام.

وقد ظل هذا الاستعمار يكيد لكل من اليهود والنصارى، ويؤلب كلاًّ من الطائفتين على الأخرى، ولا سيما في القدس وما حولها، وما فتئ يؤجج بينهما نيران البغضاء، إلى أن أُجلي الاستعمار الروماني عن بلاد الشام بفضل الفتح الإسلامي. فتنفَّس النصارى واليهود الصُّعداء، وعقد بينهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رابطة التواصل والصلح وأعاد علاقة ما بينهما إلى رواق الأمن والسلم. وتلك هي الصورة ذاتها التي تحققت عند الفتح الإسلامي في مصر.

إذن، فيكذب من يزعم أن الفتح الإسلامي كان يهدف إلى إرغام الكافرين على الإسلام، إن وقائع التاريخ لتنطق بإفكهم. وإن من أبرز الوقائع أن عدد النصارى في بلاد الشام بقي إلى ابتداء سلسلة الغزوات الصليبية، مساوياً لعدد المسلمين، بل ربما يزيدون، ولم تضق الشريعة الإسلامية المطبقة، ذرعاً بهم..

ولما أقبل الغزاة الصليبيون إلى الشام، أصر نصارى الشام على أن يتخذوا مواقعهم إلى جانب مواطنيهم المسلمين في خندق قتالي واحد. ولعل المهتمين بدراسة التاريخ الإسلامي من الغربيين الذين لا يزالون يروجون الأكذوبة القائلة بأن الإسلام إنما انتشر في هذه البقاع بالسيف، أقول: لعلهم يعلمون ما نعلم من أن رسول الله أوصى خيراً بأقباط مصر، وأن الفتح الإسلامي كان مقروناً، أينما كان، بالوصية الإسلامية القائلة: ألا لا يُفتننَّ نصراني عن نصرانيته. وقد التزم أصحاب رسول الله ثم التابعون ومن تبعهم من بعدهم بهذه الوصية، بل بهذه القاعدة الشرعية الكبرى.

***

الصفحات