كتاب " الليلة الخالدة " ، تأليف الشيخ عبد الكريم تتان ، والذي صدر عن
قراءة كتاب الليلة الخالدة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ثم أتى الركب بعد ذلك على واد، فيه ريح بشعة، وصوت منكر! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- "ماهذا الصوت يا جبريل؟!" فقال:
- هذا صوت جهنم تقول: يا رب ائتني بأهلي، وبما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وغساقي وغسليني[34]، وقد بعد قعري واشتد حري، ائتني بما وعدتني.
فقال لها الله سبحانه: لك كل مشرك ومشركة، وخبيث وخبيثة، وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب.
فقالت النار: قد رضيت يارب[35].
وأخيراً حط الركب في بيت المقدس، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البراق، فمد جبريل إصبعه إلى صخرة -هناك- فخرقها، وشد بها البراق[36]، وقد كان الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه يربطون بها[37]، ثم دخل صلى الله عليه وسلم المسجد، قال:فجمع لي الأنبياء، فقدمني جبريل حتى أممتهم... قال: ثم صعد بي إلى السماء الدنيا[38]. وعن أنس رضي الله عنه قال: "ثم بعث له آدم فمن دونه فأمّهم تلك الليلة"[39]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: ثم حانت الصلاة فأممتهم[40]. وجاء عن أبي أمامة رضي الله عنه : "ثم أقيمت الصلاة فتدافعوا حتى قدّموا محمداً صلى الله عليه وسلم"[41].
وأنت ترى أن كل الروايات تصب في إمامة الرسول صلى الله عليه وسلم بجميع الأنبياء في رحاب المسجد الأقصى الذي هو منتهى الإسراء، ثم كان بعد ذلك المعراج.
ثم لقي أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم، فقال إبراهيم عليه السلام: "الحمد لله الذي اتخذني خليلاً وأعطاني ملكاً عظيماً، وجعلني أمّة قانتاً يؤتم بي، وأنقذني من النار، وجعلها عليّ برداً وسلاماً".
قال: ثم إن موسى عليه السلام أثنى على ربه عز وجل فقال: الحمد لله الذي كلمني تكليماً، وجعل هلاك آل فرعون ونجاة بني إسرائيل على يدي، وجعل من أمتي قوماً يهدون بالحق وبه يعدلون.
ثم إن داوود عليه السلام أثنى على ربه عز وجل، فقال: الحمد لله الذي جعل لي ملكاً عظيماً، وعلمني الزبور، وألان لي الحديد، وسخر لي الجبال يسبحن والطير، وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب.
ثم إن سليمان أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي سخر لي الرياح، وسخر لي الشياطين يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل، وجفان كالجواب وقدور راسيات، وعلمني منطق الطير، وآتاني من كل شيء فضلاً، وسخر لي جنود الشياطين والإنس والطير، وفضلني على كثير من عباده المؤمنين، وآتاني ملكاً عظيماً لا ينبغي لأحد من بعدي، وجعل ملكي ملكاً طيباً ليس فيه حساب.
ثم إن عيسى عليه السلام أثنى على ربه عز وجل، فقال: الحمد لله الذي جعلني كلمته، وجعل مثلي مثل آدم، خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون، وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير، فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، وجعلني أبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذنه، ورفعني وطهرني وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم. فلم يكن للشيطان علينا سبيل.
ثم إنّ محمداً عليه الصلاة والسلام أثنى على ربه عز وجل، فقال: فكلكم أثنى على ربه، وإني مثن على ربي عز وجل فقال: "الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيراً ونذيراً، وأنزل علي الفرقان، فيه بيان لكل شيء، وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتي أمة وسطاً، وجعل أمتي هم الأولين وهم الآخرين، وشرح لي صدري، ووضع عني وزري، ورفع لي ذكري، وجعلني فاتحاً وخاتماً". فقال إبراهيم عليه السلام: بهذا فضلكم محمد صلى الله عليه وسلم[42].
هذا، وقد نقل ابن كثير بعدما ساق هذه الثناءات على الله من الأنبياء الأطهار عن أبي جعفر الرازي قوله في الخاتم والفاتح: خاتم النبوة، وفاتح بالشفاعة يوم القيامة.
والتقى فيه بعض المرسلين؛ إبراهيم وموسى وعيسى، وتذاكروا أمر القيامة، وقد ردوا أمرها إلى إبراهيم عليه السلام فقال: لا علم لي بها، فردوه إلى موسى عليه السلام فقال: لا علم لي بها، فردوه إلى عيسى عليه السلام فقال: أما وجبتها، فلا يعلم بها أحد إلا الله تعالى، ولكن فيما عهد إلي ربي أن الدجال خارج، ويكون معي قضيبان، فإذا ما رآني ذاب كما يذوب الرصاص، فيهلكه الله إذا رآني، ويهلك كل كافر، حتى إن الشجر والحجر يقولان: يا مسلم إن ورائي كافراً، فتعال فاقتله. عندئذ يخرج يأجوج ومأجوج، {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [الأنبياء: 21/96] فيطؤون البلاد، ولا يأتون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه. فيرجع إلي الناس فيشكونهم، فأدعو الله عليهم فيهلكهم، فيموتون حتى تجوي[43] الأرض من نتن ريحهم، فينزل الله عليهم المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفها في البحر. وفيما عهد إلي ربي وإن ذلك كله كائن، فإن كان فالساعة -حينئذ- كالحامل المتم، لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها، ليلاً أو نهاراً[44].
كان إبراهيم عليه السلام أقرب الناس شبهاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، أما موسى عليه السلام فكان ضرباً من الرجال[45]، خفيف اللحم، ممشوق القوام، كأنه من أزد شنوءة، وكان المسيح -عليه السلام- ربعة[46]، أحمر، كأنما خرج من ديماس[47].
بعد هذا اللقاء خرج صلى الله عليه وسلم من المسجد، فقدم له جبريل إناءين، في أحدهما لبن، وفي الآخر خمر، وقيل له: خذ أيهما شئت، فأخذ صلى الله عليه وسلم إناء اللبن فشربه، فقال جبريل: هديت للفطرة وأصبتها، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك[48].
من حيث رواية تقديم الشراب وعدد مراته ومكان وقوعه روى أبو هريرة رضي الله عنه [49] فقال: أتي رسول الله ليلة أسري به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن، فنظر إليهما فأخذ اللبن، قال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك. ومن حديث مالك بن صعصعة[50]: ثم رفع لي البيت المعمور، ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك. وعن أنس رضي الله عنه [51] أن إتيانه الآنية كان ببيت المقدس قبل المعراج، ولفظه: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاء جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فأخذت اللبن، فقال جبريل: أخذت الفطرة. ومن حديث أنس عن مالك بن صعصعة قال: "... ثم أتيت بإناءين أحدهما خمر والآخر لبن"[52]، وعن أنس مرفوعاً: "رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا أربعة أنهار، قال:... وأتيت بثلاثة أقداح"[53]. هذا، وقال العلماء: اختلف في تقديم الآنية: هل هو قبل العروج أو بعده، وفي عددها، وأكثر الروايات على أنه كان قبل العروج. وجمعاً بين الروايات يقال: قدم له مرتين، وفي اختلاف العدد لعل بعض الرواة ذكر مالم يذكر الآخر، حيث عرض الخمر مرتين مع إعراضه صلى الله عليه وسلم عنها وتصويب جبريل ذلك، دل على تكثير التصويب والتحذير؛ أي كثرة وقوع الإصابة منه صلى الله عليه وسلم، والتحذير للأمة من حيث كون اللبن دالاً على الفطرة بخلاف الخمرة. قال القرطبي: يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة، لأنه أول شيء يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه، وميل الرسول إليه ناشئ عن أنه ما ينشأ عن جنسه مفسدة، والفطرة تطلق على الإسلام وعلى أصل الخلقة[54]، قال تعالى: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر: 35/1] ، وقال صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة..."[55] ، واخترت الفطرة: أي اخترت اللبن الذي عليه بنيت الخلقة، وبه ينبت اللحم، أو اخترته لأنه الحلال الدائم في دين الإسلام، أما الخمر فحرام فيما يستقر عليه الأمر، وقد تكون الإشارة بتقديم اللبن إلى أن شعاره العلم كما في التعبير، وفي الحديث: "رأيت كأني أتيت بقدح من لبن فشربت حتى أرى الري يخرج من أظفاري، ثم ناولت فضلي عمر بن الخطاب. قالوا: يا رسول الله! ما أولته؟ قال: العلم"[56].
أجل؛ اختار المختار اللبن، وقال جبريل: هديت إلى الفطرة، والفطرة بطبيعتها نقية، واللبن لا صنعة للإنسان فيه، إذ يرتضعه الطفل من ثدي أمه، أو يشربه حلباً من أثداء الحلائب، والخمر يكشف لنا ما يطرأ عليها مما يجعلها مؤثرة سلباً في التوازن السلوكي والتفكير، حيث تمتد يد الإنسان إليها، وقبل أن تمسي خمرة كانت عنباً و رزقاً حسناً، فإذا باليد الصانعة العابثة تتلفه بالتخمير حتى ينتن ويتحلل، فيخرج عما خلق عليه، من مذاق حلو فيه عطاء وطاقة للجسم إلى طعم لاذع حارق مخاصم للعقل، ومحاصر لآفاقه، يغشي عليها ويخامرها، فيفسد بذلك توازن الإنسان... عنب في برميل مخزون يتعفن ويتخمر مدة من الزمان، فيتحول عن مذاقه وطبيعته التي فطر عليها، ويكفي في بيان خطرها أنها تلغي العقل الذي هو مناط التكليف أو تكاد، وقد روي أن سكيراً رأى مجنوناً فدعاه إلى طاولته ومخادنته ومشاركته في الشراب، فقال له المجنون: أنت تشرب لتكون مثلي، فأنا أشرب لأكون مثل من؟!!
بعدئذ أتي بالمعراج الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: لم أر شيئاً قط أحسن منه[57]، وهو كالسلم، ذو درج، فصعد فيه صلى الله عليه وسلم حتى انتهى به إلى باب من أبواب السماء الدنيا، فاستفتح جبريل، فقيل له: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به، فنعم المجيء جاء. ثم فتح لهما الباب فدخلا، ولما خلصا إلى السماء رأى صلى الله عليه وسلم رجلاً جالساً، وعن يمينه أشخاص، وعن يساره أشخاص، فإذا نظر ذلك الرجل قبل يمينه سر وضحك، وإذا نظر قبل شماله حزن وبكى. قال صلى الله عليه وسلم: من هذا يا جبريل؟ قال:
- هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه، فأهل اليمين أهل الجنة، وأهل الشمال أهل النار، لذلك يضحك إن نظر إلى أهل الجنة، ويبكي إن نظر إلى أهل النار[58]. وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد عليه مرحباً وقال:
- مرحباً بالنبي الصالح، والابن الصالح. ودعا له بخير.