قراءة كتاب رمادية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
رمادية

رمادية

كتاب " رمادية " ، تأليف غادة صديق رسول ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 1

رمادية

كنت اليوم غريبة في هذه المدينة. على الرصيف سار خلفي، جنباً إلى جنب ظلي، التوجس والخوف من مجهول بلا ملامح. سمعت نعيق غربان، تلفَّت أبحث عنها، فلم أجد غير عساكر بثياب غريبة غير نظامية، يَخافون ولا يخِيفون. الزحام والأسلاك الشائكة في كل مكان، ودخان مركبات تبث السموم والضجيج. والبشر مواطني مدينتي كانوا يجرون كالمذعورين، يقودون سياراتهم بعصبية وعجلة، أحدهم يطأ الآخر، هل فاتهم جميعاً موعدٌ مهم تعتمد عليه حياتهم الباهتة؟ من كان يلحق بهم ليفروا بهذه الطريقة؟.

تشبثت بالأماكن التي أحببتها في الزمان الغابر الجميل لموصلي في الأمس، فحملتني قدماي إلى الأحياء القديمة التي شهدت أيام الطفولة البيضاء. قطعت رصيف شارع (رأس الكور) المتعرج بخطاي المتمهلة التي يفقدها الخوف اتجاهات الأمان، على القدمين ذاتهما اللتين طالما سرت بهما قفزاً، فرحاً، كأني ألاحق سرب فراشات من ضوء سحري لم يبصره بشر قبلي. نفقد حين نكبر أنفسنا فلا نعود نحن؛ فلا عجب أن تنكرنا المدن والأرصفة، حين ننكر أنفسنا للوهلة الأولى أمام مرآة الأعوام السرمدية.

كل شيء تغيّر فلم تعد الأيام تبدو جميلة أو حميمية ولا حتى حقيقية يا مدينة روحي. حتى هذا الحي بدا مزيفاً لا تناسب بضاعته المترفة غير الضرورية أبنيته العتيقة. مقهاه، حيث اعتاد جدي يومياً تناول (استكانات) الشاي التي يصعب إحصاؤها، اكتظ برجال بلا وجوه مشغولين بهواتفهم المحمولة التي تنعق بغناء شاذ بمفردات تعتبر ضمن لائحة الشتائم العراقية. عيونهم ترقب النساء وتأمل في حادث سير يبدد الضجر. باعة الفاكهة والخضر احتلوا ربع الشارع وتركوا نصفه للأسلاك الشائكة والعوارض التي يضعها رجال الشرطة لعرقلة السير، فلا تمر بهم سيارة مسرعة قد تطلق الرصاص لا سمح الله، عموماً لم يعد الرصاص مشكلة فالشارع خير شاهد على انفجارات ومصائب ملأته بالحفر، إضافة لأنقاض مبنى مركز الشرطة القديم وما جاوره من بنايات سيئة الحظ.

سرت أتطلع إلى وجوه لا أعرفها بالتأكيد إني التقيتها مرات ومرّات لكنها لم تشتر تذكرة لبنك ذاكرتي المفلسة من الوجوه المكتظة بالأصوات والكلمات، فأنا لا أنسى صوتاً أو عبارة مضيئة، لكن قناع وجه قائلها سرعان ما يغيب مثل دوامة يصنعها حجر صغير يبتلعه قعر النهر. شدني وجه طفل يعمل في أحد المخابز التي تكاثرت في العقدين الماضيين، ربما لأننا أصبحنا نأكل أكثر مما ينبغي. قدرت عمره بعشرة أعوام. لم يكن سعيداً ولا حزيناً أيضاً، افتقدت عيناه بريق الدهشة التي لا أصادفها إلا في عيون الصغار. من سرق منه جناح الحلم يا ترى؟ بطريقة آلية بليدة، وعيناه تشخصان بعيداً جداً. كان يمد يده إلى قدر ضخمة ملأى بالعجين، ليأخذ لطخة منها، يجاهد لفصلها عن القطيع الذي يصر على التمسك بها، يقطع كل جذور اللطخة التي تصرّ على التمسك بوطنها، بخيوط تبدأ قوية وتضعف تدريجاً حتى تنقطع، يكور القطعة التي باتت غريبة بمهارة ثم يصفها على منضدة مغطاة بقماش غامض.

انقلبت ألوان المشهد! وبت أرى المخبز والعاملين فيه بالأبيض والأسود فقط. هذه الحالة نفسية، كما شرح لي الطبيب الاختصاصي بأمراض العيون، الذي أجرى لي فحوصات كثيرة، وداخ وهو يفتش في عيني عن عطب غريب لم يسمع به سابقاً. اقتربت ودخلت المخبز بحجة شراء رغيفين من الخبز، لأفهم كيف وإلى أين غادرت الألوان من هنا. اقتربت من الولد العامل الذي كان ينبغي أن يلعب على ضفة النهر التي لا تبعد عن المخبز أكثر من ثلاث دقائق سيراً، أو دقيقة واحدة عدواً إذا ما تاق إلى اللحاق بسمكة يجب اصطيادها قبل أن تبتلعها سمكة أكبر. أو ربما لالتقاط حجر ملون يلمع تحت الشمس الآن قرب الضفة المعشوشبة. هل كان يفكِّر في الضفة؟ لماذا كان يرقب الأطفال الذاهبين إلى المدارس يا ترى، أي قوة حولته إلى آلة؟ كما فعلت معي السنون. صباحات كثيرة كنت أتمنى لو تفرغت للقراءة أو قضاء أعمال المنزل وأنا أستمع إلى الموسيقى، بدل جر خطواتي للذهاب إلى عمل لا يحتاج إليّ. أحسست بأنَّ روحي صارت بيضاء وسوداء، بسبب كل الأشياء التي سرقها إيقاع الوقت المذعور المتعجل في المدينة مني، وأن الألوان تنضب حين نتوقف عن الحلم، ويبدأ التثاؤب من رتابة الشهيق والزفير. لم يسعفني الوقت لمزيد من التأمل، وجدت نفسي في صخب لقاء وتحية ابنة خالة لم أرها منذ عيد الأضحى الفائت.

الصفحات