كتاب " أما بعد " ، تأليف وليد الرجيب ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع ، أما بعد هي أول روا
أنت هنا
قراءة كتاب أما بعد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
استراحة
رفع المخرج مناحيم ليفي يده إلى مساعده، بإشارة تعني إيقاف التسجيل، ثم قال:
- حسناً، جيد جداً، لنأخذ استراحة ونعود للتسجيل لاحقاً.
قال المخرج ذلك، بعد أن لاحظت أن الانفعال والذكريات زادت من رعشة يد يعقوب وصوته، وعندما كان يتحدث باسترسال، لم يكن ينظر إلى المخرج إلا قليلاً، وكأنه كان يحكي لطيوف وأرواح، فقد اعتاد الوحدة لسنوات طويلة، وحدة داخليه ليس لها علاقة بوجود الآخرين.
كان مناحيم ينظر إليه وهو يتكلم، فيشعر أن هذا الرجل يحمل كنوزاً من الحكايات، ورغم سنواته الست والثمانين، إلا أن فيه شيئاً مميزاً لا يوجد إلا عند المبدعين والفنانين ذوي الكاريزما، في هيئته وملامحه الشرقية جاذبية كبار السن، كان مناحيم يلاحظ حركات يده المرتعشة وأصابعه الطويلة، كانت عروقها خضراء نافرة، وعلى سطحها تجاعيد ونمش كبار السن، كان يلبس بدلة من طراز الخمسينيات وينتعل حذاء رياضياً، ويمشط شعره الأبيض على جانبي صلعته مستعيناً بكريم، كي يثبت شعره، يحمل بيده منديلاً يستخدمه في مسح فمه ونظارته السميكة، ويمسح به عرقاً غير موجود على صلعته.
وما شده أكثر، طريقة سرده للحكايات بتقطيع سينمائي، ومن خلال سيناريو وحوار تلقائيين، يتكلم بلغة عربية ذات لهجة كويتية، أو عراقية أقرب إلى الكويتية، كان هذا شرطه لإجراء هذه المقابلة، إذ برر ذلك بأن تعبيره باللغة العربية أو الإنجليزية أفضل من العبرية، وبالنسبة لمناحيم لابأس من ذلك، خاصة أن أصوله جزائرية، وأهله كانوا يهتمون بتعليم اللغة العربية لأولادهم.
مناحيم ليفي مخرج سينمائي يساري، كلفه الحزب الشيوعي الإسرائيلي "راكاح"، بإعداد فيلم عن حياة المناضل يعقوب داود عزرا، بمناسبة عيد ميلاده السادس والثمانين، والذي يصادف بعد يومين من بداية هذه المقابلة.
ولما قابل يعقوب قبل بضعة أيام، كان جالساً في مقهى دجلة الذي يملكه ساسون العراقي اليهودي، وقد ورثه عن والده بنيامين، ومعظم مرتاديه من العرب اليهود، كان مقهى عراقياً تقليدياً، يقدم به الشاي الثقيل وأكلة "اللبلبي" (3)، ومؤخراً بدأ صاحب المقهى بإدخال الشيشة، لكنه يذيع أغاني عربية باستمرار، وكان في بدايات تأسيسه للمقهى، يذيع أغاني عراقية من خلال حاكي اسطوانات، ثم تطور إلى أشرطة كاسيت، والآن يستخدم الأقراص المضغوطة، بجهاز يحمل مجموعة من "السي ديات".
كان يعقوب مستنداً إلى عصاه، واضعاً كفيه على قمتها المعقوفة، اقترب منه مناحيم وقال:
- "شالوم عليخا" (4).
فرد يعقوب بصوت محشرج:
- "شالوم" (5).
- "إيخ هماتساف" (6)؟
- "تودا لإيل"، (7) "أني بسيدر" (8).
جلس مناحيم إلى طاولة يعقوب دون استئذان، وجلس مساعده بقربه، وعرفه بنفسه:
- أنا مناحيم ليفي، مخرج سينمائي، أنت يعقوب عزرا، أليس كذلك؟
ابتسم يعقوب ابتسامة رجل عجوز، قبل أن يسأل بما يشبه المزاح:
- أنت مخرج أم رجل مباحث؟
ضحك مناحيم، فأكمل يعقوب:
- أنا أشم رائحة رجال الأمن من بعيد.
قال له مناحيم من خلال ضحكته:
- لا اطمئن، لست رجل مباحث، أنا مخرج معروف، اسأل عني.