قراءة كتاب قتل الملاك في بابل _ المفكر والناقد قاسم عبد الأمير

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
قتل الملاك في بابل _ المفكر والناقد قاسم عبد الأمير

قتل الملاك في بابل _ المفكر والناقد قاسم عبد الأمير

كتاب " قتل الملاك في بابل _ المفكر والناقد قاسم عبد الأمير " ، تأليف علي عبد الأمير عجام ، والذي صدر عن دار المؤسسة للدراسات والنشر .

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 4

عالم المدرسة المدهش

ملأتني قدرتي على قراءة القرآن الكريم بطلاقة، بالرغبة في قراءة كل ما تقع عليه عيني من كتابة، فكنت أقرأ اللوحات المعلقة على المحلات أو عيادات الأطباء؛ فأفوز بإعجاب ودهشة الأهل والأقارب، وهكذا كنت أتطلع إلى عالم المدرسة الذي أسمع عنه بتوق ولهفة·

لكنني أحسست أن دخولي المدرسة يتجاذبه رأيان·· فثمة حماسة أمي وحسمها للموضوع باتجاه دخولي المدرسة في مواجهة تردد والدي أو حتى بروده إن لم يكن رفضه لهذه الفكرة تحت ذرائع مختلفة متعددة، أتذكر منها : أن المدارس لا تعلم الديانة وأنها ربما تعلم أشياء لا يقرها الدين، أو أنها الطريق إلى الوظائف الحكومية وهذه مصدر لأموال ليست حلالاً وأشياء أخرى في هذه الدائرة·

واشتدت المنافسة في صيف عام 1951 أو 1952 بينهما رحمهما الله بانتظار السنة الدراسية الجديدة حيث يسمح عمري بالتسجيل فيها· وحين حل موعد تقديم أو تسجيل التلاميذ الجدد حسمت الوالدة أمرها بالاتفاق مع أحد (تلاميذها) المقربين عائلياً، والذي كان متخرجاً من دار المعلمين الابتدائية لتوه أو هو في السنة الأخيرة منها· كان ذلك هو مهدي عباس الأنباري (المحامي حالياً) وكان جارنا، حيث يلتصق جانب بيتنا بخلفية بيتهم في محلة النزيزة·

وبالفعل جاءني مهدي أو (الأستاذ هداوي) كما كنا نسميه في المحلة ضحى أحد الأيام وأنا ألعب في زقاقنا وسألني باسماً إن كانت (الملة) - يشير إلى أمي- في البيت· ثم طلب مني بعد أن تأكد منها أن أذهب لتبديل ملابسي وإحضار دفتر النفوس لنذهب إلى المدرسة !! وأسرعت الوالدة بإنجاز متطلباتي مع دعواتها للعزيز هداوي بالتوفيق، وسلمتني إليه وديعة غالية وسط فرحتي الغامرة· وقادني فرحاً هو الآخر إلى (مدرسة المسيب الابتدائية الأولى)، حيث قدمني إلى مديرها الأستاذ محمد فاضل بابان، وكان إلى جانبه الأستاذ منصور حسين القرطاني، وأكد لهما أنني سأكون التلميذ المتفوق حتماً، وطلب منهما أن يختبراني للتو في قراءة أي شيء· وكان بذلك يرد على اعتراض المدير بأن عمري ينقصه شهور للتسجيل، ولكنه ألح عليهما بقبولي ولو بصفة مؤقتة ريثما أثبت صحة ظنه بتفوقي، فاختبراني وما زال بهما حتى تم تسجيلي·(راجع الهامش حيث كتب السيد الأنباري في رسالة خاصة إلى المحرر، موضحا هذه الحادثة)·(2)

على أن تأثير مهدي الأنباري لم ينته هنا وإنما استمر فعالاً خارج المدرسة كقدوة ثقافية وسياسية، وكمرشد لي للعديد من القراءات، وسأتوقف عند بعض ذلك التأثير فيما بعد·

وهنا أعتقد بضرورة وقفتين لا بد منهما لضرورتهما وأهميتهما بالنسبة لمؤرخ المدينة··· أو مؤلف كتاب عن المسيب: الأولى: عند معلمي وإدارة هذه المدرسة ودورهم في تنشئة جيل من أبناء المسيب· الثانية: عند المدرسة نفسها وكمؤسسة ومكانتها لدى الناس في المدينة·

فبالنسبة لمعلمي المدرسة أجدني الآن أطوف بمباراة من الجدية والإخلاص لمهام المعلم المعلم· ولكنني مع شدة وفائي ومحبتي لذكراهم جميعاً أميز بعضهم بما أحسه من تأثيرهم الخاص بي· بل وأشعر بكثير من الثقة أن تأثيرهم لم يقتصر على مجموعة قليلة من تلاميذهم، بل أزعم أنهم أصبحوا القاسم المشترك للتأثير في جيل كامل ممن درس عليهم وأصبحت أسماؤهم دليلاً على النموذج الحي للمعلم المربي، ولنقف عند قسم منهم·

1· منصور حسين القرطاني :

اختص بتعليم الصف الأول بكل ما في تعليمه من خصوصية وصعوبة· وكانت طريقته في تعليم الحروف وأصواتها تقوم على اندماجه وتلاميذه بما يجعل الموضوع مسألة حياتية بالنسبة إليهم، فبالتكرار والاستفهام والإعادة والرسوم الإيضاحية والتمثيل، وبالترديد بعده وتشجيع من أتقن الدرس بالقيام لأدائه أمام زملائه·· كان يحفر فينا صوراً للحروف والكلمات، وبإكثاره من تكليفنا بالواجبات المدرسية وتشجيع من يكتب أفضل يدفعنا في دنيا الكتابة دفعاً· وكان تفتيشه الدقيق في دفاترنا الصفية والبيتية وتدقيقه المثابر في صحة الإملاء واستقامة السطور ونظافة الصفحة مما لا يحتمله تلميذ كسول، خاصة وأنه يحسن توقيت العقوبة بمختلف درجاتها ابتداءاً بالتنبيه ثم التوبيخ اللفظي إلى السخرية إلى الزجر وصولاً للضرب·

ولأن معلمنا العزيز هذا كان معلماً للرياضة لفترة من الفترات فإننا كنا نباهي بقية الصفوف بحيويته وتألقه، إذ نراه بالقميص والبنطرون وفي الشتاء بهما و(اليلك) دون السترة في ساحة كرة الطائرة أو كرة السلة في المدرسة، يمارس اللعبة مع فريق المدرسة أو مع المعلمين فيزداد إعجابنا به، وتمنحه مكانته الرياضية تأثيراً متزايداً فينا· وكانت المدرسة حين تفوز في المباراة مع مدارس أخرى كان الجمهور العائد من اللعب يهتف هازجاً، من بين ما يهتف به بشروا أبو ليلى··· ترة الكاس ألنه وأبو ليلى هو معلمنا منصور·

ولقد كتبت ذات يوم أواسط الثمانينات مقالة عن التدريس وشجونه فاستذكرت دور هذا المعلم المربي، وكان هناك وقتها من أخبرني (بوفاته) ولذا أعقبت اسمه ب (يرحمه الله) حتى لقيته بعد أكثر من سنة على نشر المقال في مجلة الثقافة الشهرية في بغداد وحدثته عن المقال· وفي المقال أشياء أخرى عنه·

2· عبد العزيز عبد اللطيف:

وهل من تلميذ من جيلي في مدرستي هذه لم يؤثر فيه (أبو سعود) كما كان يكنى رحمه الله ؟! كان (أبو سعود) معلم اللغة العربية في الصف الخامس والسادس· وكانت شدته في التصحيح ومنح الدرجات تصلنا أخبارها ونحن في الصف الثالث والرابع بشكل خاص· وحين أسعد في الحظ فعلاً بطريقته في شرح قواعد اللغة ابتداء من الصف الخامس، شعرت أنه يستفز في داخلي قدرتي على التجويد في كل شيء·· في الخط، في جدولة المادة، في تنظيم الدفتر، في ضبط الإملاء·· إلخ· وكانت السبورة بالنسبة له أكثر وسائله تأثيراً يقسمها إلى جداول، يؤكد على تجديد صبغتها، يكتب عليها بكلمات صغيرة لتتسع لأكثر ما يريده من مادة، يستعمل أكثر من لون من الطباشير لإظهار الحركات أو ما يريد التركيز عليه، يحل الواجب مع التلاميذ عليها ولا ينسى أن يكتب عنوان الموضوع والتاريخ في حاشيتها العليا·

ويؤكد على تلاميذه أهمية الوقوف على السبورة وكتابة الحل أمام زملائهم ليناقشهم في دقة رسم الحروف وصحة الإملاء· الواجبات البيتية عنده مقدسة ولا مجال للتهاون فيها، فالعقوبة والتوبيخ حصة كل مهمل·· والإنشاء عنده مهمة لا بد من إعطائها حقها· وكذلك التشجيع على الخطابة، فهناك منه درجات إضافية لمن يلقي محفوظات شعرية في الاصطفاف الصباحي، شرط أن يضبط النطق· ولقد أدهشت المدرسة مراراً في الاصطفاف الصباحي بمحفوظات شعرية حفظتها من خارج المقرر المدرسي، مستنداً إلى قدرتي على القراءة الصحيحة التي منحني إياها نطق القرآن الكريم·

وحين حصلت عنده على درجة 25/25 في قواعد اللغة، ثم مثلها في الإملاء والإنشاء، أعلن رحمه الله أمام الطلبة والأساتذة أن هذا حدث كبير إذ لم يحصل عليها قبلي إلا نادراً ودون تتابع !!

ولأنه كان يعلمنا الديانة فإنه كان دائم التأييد على إتقان تجويد التلاوة· وكان يخصص هدية لمن يفوز بالتلاوة الأجود، وكنت في هذا وفي الحصول على درجة 25/25 في مباراة ودية ساخنة، تفرح أستاذنا بشكل خاص، مع زميلي المتفوق جبار إبراهيم رسولي، رئيس مهندسين حالياً وخبير في اختصاصه، الذي كان يسبقني بسنة دراسية واحدة·

وكان لشدة تأثير هذا المربي الحنون في تلاميذه أنه إذا مر في نزهته المسائية المعتادة كل يوم في الطريق إلى مقهاه المفضل على شاطئ الفرات بمحلة النزيزة، حيث مجلسه تحت شجرة توت ضخمة·· إذا مر اختفى جميع التلاميذ اللاعبين في الطريق تاركين أدوات اللعب حيث هي، واختفى السابحون في الشط بالغوص تحت الماء حتى يبتعد عنهم، وكان يمضي بأناة مشيته مداعباً مسبحته ويراقب كل ذلك ويبتسم !!

لم يكن (أبو سعود) معلماً متميزاً فقط بل قارئاً جيداً أيضاً، وكثيراً ما كان يدخل الصف وبيده كتاب مما يقرأ أو مجلة دورية، ومنه تعرفت لأول مرة على سلسلة كتاب الهلال ·· ورغبة في الاقتداء به اشتريت عدداً من كتاب الهلال، وكان ذلك هو العدد 89 لسنة 1958 وما يزال لدي وهو كتاب إبليس لعباس محمود العقاد، وعليه تاريخ الشراء وهو أيلول 1958 وهذا يعني أنني اشتريته بعد انتهاء المرحلة الابتدائية·

ولقد كان من القلة من المعلمين الذين يقدمون هدايا للمتفوقين في الدراسة أو النشاط المدرسي من ماله الخاص، وكانت دائماً قلماً فاخراً أو كتابا· وكان قلم الحبر ماركة (تيكو) حلم أي تلميذ يحسن الكتابة· وقد نلت من هداياه قلمه الشخصي العزيز لديه ماركة (الدب الأسود)، وكنت أحتفظ به وأستعمله صالحاً حتى دخولي كلية الزراعة عام 1962· ومما كان يزيد هيبته فينا أنه أستاذ للعديد من معلمي مدرستنا الذين صاروا زملاء له وكانوا يحدثوننا عنه بفخر·

الصفحات