كتاب " النقد الثقافي من النسق الثقافي الى الرؤيا الثقافية " ، تأليف عبد الرزاق المصباحي ، والذي صدر عن مؤسسة الرحاب الحديثة للنشر والتوزيع .
أنت هنا
قراءة كتاب النقد الثقافي من النسق الثقافي الى الرؤيا الثقافية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
النقد الثقافي من النسق الثقافي الى الرؤيا الثقافية
الفصل الأول :النقد الثقـافيبين استعادة الأنساق والخطاب المضاد
تتقاطع في هذه الفصل غايتان، فهو يحاول، من جهة، تتبع مظاهر النسق الناسخ في الأدوات النقدية الثقافية التي اقترحها عبدالله الغذامي، في مسعاها الشاق للتحرر من المؤسسة النقدية ممثلةً في البلاغة العربية والنقد الأدبي النصيِّ الحديث، والسفر بهذه الأدوات المطبوعة بعلامات الجسد المانح إلى جسد النقد الثقافي الذي نسعى، أيضاً، إلى ملامسة بعض من آثار العلة التي لحقته بسببٍ من هذا التهجير القسري. ومن جهة ثانية، تتبع النقاش الذي أثير حول مشروع النقد الثقافي عند الغذامي، مع كل من عبدالنبي اصطيف وسعيد علوش، مع استخلاص ما يمكن أن يسعف في تقويم نسبي لأدوات النقد الثقافي عند الغذامي وإبدالاته.
1. المبحث الأول: مشروع النقد الثقافي عند الغذامي
1-1 النقد الثقافي: تفكيك سلطة النسق أم إعادة إنتاجه
إن "النقد الثقافي فرع من فروع النقد النصوصي العام، ومن ثم فهو أحد فروع اللغة وحقول الألسنية، معنيٌّ بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه وصيغه، ما هو غير رسمي وغير مؤسساتي وما هو كذلك سواء بسواء، من حيث دور كل منهما في حساب المستهلك الثقافي الجمعي، إنه معنيٌّ بكشف لا الجمالي، كما هو شأن النقد الأدبي، وإنما همّه كشف المخبوء من تحت أقنعة البلاغي/ الجمالي، وكما لدينا نظريات في الجماليات، فإن المطلوب هو إيجاد نظريات في (القبحيات)، لا بمعنى البحث في عن جماليات القبح، مما يعتبر إعادة صياغة وإعادة تكريس للمعهود البلاغي في تدشين الجمالي وتعزيزه، وإنما المقصود بنظرية القبحيات هو كشف حركة الأنساق وفعلها المضاد للوعيوللحس النقدي." (5) هكذا يعرف الغذامي نقده الثقافي. ومن اللافت، يقينا، اعتباره أحد فروع النقد النصوصي العام، مما يحيل على مجال معرفي شاسع يشمل، فضلا، عن اللسانيات بمختلف نماذجها ومدارسها المناهجَ النقديّة النصيّةَ: من بنيوية، تفكيك، وسيميائيات، لكنه يختلف عن هذه المناهج النصيّة في مرماه المتمثل في محاولة كشف الأنساق الثقافية المضمرة في الخطاب الأدبي التي تتموقع بوصفها أنساقاً ثقافيةً مضادة لكل وعي سليم، لا بتفكيك وإعادة تركيب النسق اللغوي مثلما هو حال البنيوية التي ظلت تهتم بالأدبية بوصفها بحثا في أنساق النص الداخلية وعلاقاتها بغاية البحث فيما يصنع جماليته. وهو ما جعل الغذامي يعلن عن نهاية وظيفة النقد الأدبي ودوره التاريخي، مادام لا يستطيع مساءلة حقيقة الحداثة العربية وحقيقة الدور الذي لعبه الشعر العربية "فهل الحداثة العربية حداثة رجعية ؟ وهل جنى الشعر العربي على الشخصية العربية؟ هل في ديوان العرب أشياء أخرى غير الجماليات التي وقفنا عليها؟ هل هناك أنساق ثقافية تسربت بالشعر وفي الشعر لتؤسس لسلوك غير إنساني وغير ديمقراطي؟" (6)
وإنها إشكالات يحاول إضاءتها بوساطة تفكيك الأنساق الثقافية العربية، بما هي عيوب تسربت، عميقا، بفعل الشعر الذي جسد الخطاب المركزي الأول في الثقافة العربية. وهي، أيضاً، عيوبٌ ليس النقد الأدبي قادراً على كشفها وفضح حركيتها الخطيرة؛ لأن غايته ظلت حبيسة الاعتناء بالبلاغي والجمالي، ولأن أدواته ليس بمقدورها كشف حيل الثقافة وعيوبها النسقية التي تجيد الاختباء من تحت عباءة الجمالي. لهذا السبب يؤكد الغذامي أن النقد الأدبي لم يعد مؤهلا لكشف الخلل الثقافي فكانت دعوته "إلى إعلان موت النقد الأدبي وإحلال النقد الثقافي مكانه، وكان ذلك في تونس في ندوة عن الشعر عقدت في 22/ 9/ 1997" (7) ؛ لكنه مع ذلك يحترس من أي سوء قراءة للفظة " الموت"، إذ لا تعني في نظره التخلي كلية عن منجز النقد الأدبي، وإنما تفيد تحويل الأداة النقدية من أداة في قراءة الجمالي الخالص وتبريره إلى أداة في نقد الخطاب وكشف عيوبه، ويوضح أن ما يبدو لنا حداثيا من منظور النقد الأدبي ليس في حقيقته إلا رجعيا باليا، أما الجمالي فيحمل في طياته عيوبا خطيرة (نسقية) أثرت على الشخصية العربية التي ينعتها بأنها شخصية متشعرنة: أي أن كافة قيمها تسربت إليها، بوعي أو بغير وعي، من ديوان العرب، وهذا التشعرن والرجعية، يؤكد الغذامي، أنهما انبتا في منجز إبداعي ظللنا لقرون نبجله حد التقديس ونستمتع به دون نقده أو معرفة بخطورته.
إن الهدف، إذن، عند الغذامي هو إيجاد نظرية في القبحيات، ضداً على الجماليات، وهي، يقينا، قبحياتُ الخطاب وقيمه السالبة. ومن الواضح جداً أن الغذامي يرمي إلى إحداث قطيعة مع النقد الأدبي لكونه خطاباً مهادناً ظَلّ رهين الأنساق الثقافية التي رسختها السياسة ورسخها الشعر أساسا، ولكأننا بالغذامي يُلمح هنا إلى أن النقد الأدبي تخلى عن مرتبته الحقيقية في أن يكون خطاباً متعالياً على الشعر، إذ ظل خاضعاً له ومسوغاً لأخطائه ومتسامحاً مع عيوبه الخطيرة التي يرى الغذامي أنها سبب تلبس الشخصية العربية لقيم فاسدة مغلفة بكثير من الجمال الخداع. ويحق لنا هنا أن نتساءل إن كان الغذامي نفسه خاضعا للنسق الثقافي الفحولي المبني على الإقصاء، إذ رغم تحفظه من سوء فهم لفظة الموت التي وظفها إزاء خطاب منافس هو النقد الأدبي إلَّا أن توظيف هذا التعبير يحمل أقصى أنواع الإلغاء وهو القتل وإعلان ذلك وتبريره. ولكأن الغذامي، هنا، يمارس دور الطبيب في المشرحة حين ينقل الأعضاء من جثة هالك إلى آخر حي لكنه عليل لاستكمال استشفائه، وذلك في رهانه على تحويل الأداة من تبرير الجمالي إلى كشف عيوبه. وهذا اعتراف بأن المشروع الجديد معتل ويحتاج إلى أعضاء حيوية من جسد آخر(أعضاء النقد الأدبي)، وهي أعضاء لا تزال قوية وفعالة، وإلا ما كان ليستثمرها الخطاب النقدي الجديد. فإذن ألا يكون الاحتفاء بالموت هنا احتفاء لا واعياً بالنسق الثقافي المعيب مادام مؤسساً على الإلغاء والإبعاد، حتى لو كان الأمر يتعلق بخطاب لوغوسي، فالنقد نفسه، لا يخلو من شعرية أحياناً وعقلانيته غير محسومة بشكل مطلق، وقد لا يخطئه النسق، مادامت له القدرة على الانتشار والاندماج ضمن أكثر البنيات مقاومة؟
إن مشروع الغذامي النقدي يستند إلى رهان قوي يرمي إلى الحسم مع نقد أدبي ممتد تاريخياً، ومتجذر في الثقافة العربية، لذلك يستند إلى ما يسميه ذاكرة مصطلح، وهو الإبدال الذي انطلق منه لصياغة تصوره للنقد الثقافي.