أنت هنا

قراءة كتاب النقد الثقافي من النسق الثقافي الى الرؤيا الثقافية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
النقد الثقافي من النسق الثقافي الى الرؤيا الثقافية

النقد الثقافي من النسق الثقافي الى الرؤيا الثقافية

كتاب " النقد الثقافي من النسق الثقافي الى الرؤيا الثقافية " ، تأليف عبد الرزاق المصباحي ، والذي صدر عن مؤسسة الرحاب الحديثة للنشر والتوزيع .

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 8

و: المؤلف المزدوج

إن كل منجز إبداعي يتوفر، عند الغذامي، على مؤلفين اثنين :الأول هو المؤلف المعهود سواء أكان ضمنيا أم نموذجيا أم فعليا، والثاني هو الثقافة التي هي المؤلف المضمر. فالمؤلف الفعلي هو نتاج لثقافة معينة يمرر أنساقها، بدون وعي منه، على درجة تناقض وَعْيَه، وبهذا فنحن نكون إزاء مؤلف مزدوج تكون فيه الثقافة حاسمة في ترسيخ الأنساق.

إن مرمى الغذامي هو تحرير المصطلح النقدي من سيطرة البلاغة وهي، في تصورنا، غاية محفوفة بالمخاطر التي يعترف بها هو نفسه، ولعل العائق الأكبر يتجلى في كون المصطلحات التي يريد تطويعها متجذرة ضمن تصورات وبنية مفهومية بعينها، وتلتصق بالمصطلح بفعل المراس التاريخي الطويل بها، وبالتالي فإن تحويرها لا شك تعتوره هنات وفجوات تمس مفهومه الجديد، ومنها أن قول الغذامي بمصطلحات المؤلف المزدوج، التورية الثقافية، والنسق الثقافي هي، في حقيقتها، تحمل صك غفران مطلق للمؤلف الفعلي من "الخطيئة" التي يسميها الغذامي النسق الثقافي، إنه يريد أن يفهمنا أن دور المؤلف محدود، وهو ضحية، شأنه شأن المتلقي؛ لأن المؤلف الحقيقي هو الثقافة، بوصفها منتجة الأنساق وحاملتها، والهادفة إلى الهيمنة المطلقة والنسخ الكامل للآخر المنافس والتدجين الأقصى. ومن المظاهر البارزة لهذه التبرئة قول الغذامي بالدلالة النسقية التي هي دلالة مضمرة ولا شعورية، وتغيب عن وعي المؤلف، وهي كذلك مادامت ضمن دائرة اللاشعوري؛ بيد أنها كلما ارتبطت بوعي المؤلف، وكانت تحت تصرفه وقصديته إلاَّ كانت دلالة ضمنية هدفها جمالي صرف. إن المشكل هنا هو أن الغذامي يكاد يختصر المؤلف في كونه ذاتا تخييلية لا تُعمل النقد إلا من زاوية تشذيب الخطاب ليبدو أجمل؛ لكنها غير معنية بعيوبه الثقافية أو غير واعية بها. فمطلق وعي المؤلف ينحصر في تكريس الاستيتقي وتسويغه. فهو عنده منتج الجملة الأدبية التي تتولد عنها الدلالة الضمنية، أما الثقافة فدورها، في تصوره، أعمق وأخطر إذ تبث في غفلة من وعي المؤلف الأنساق المعيبة، وتنتج الجمل الثقافية التي تولد، ضمن هذا الغياب المطلق، الدلالةَ النسقيةَ.

إن هذا التغييب الكلي لدور المؤلف وقصده هو تكريس لفرضية غير متحقق منها، إذ ما الذي يمنع، مثلاً، أن ينتج المؤلف،قصداً، الأنساق الثقافية المعيبة متواطئا، ربما، مع المؤسسة الثقافية والسياسية؟ ثم إن مفهوم النسق ذاته يطرح إشكالا حقيقيا، لكونه يتطلب وجود نسقين متعارضين يكون فيهما المضمر الخفي ناسخا للعلني الظاهر، وأن كل خطاب أدبي لا يجسد هذا التعارض الناسخ يكون غير قابل لأن يندرج ضمن مجال النقد الثقافي، وهذا اعتراف بوجود بنيات خطابية أخرى (ومنها الإبداعية)، يقينا، لا تتوفر على هذين النسقين المتعارضين الذين ينجم عنهما النسخ والإلغاء. وهذا، من جهة، لا يتواءم مع النبرة الإطلاقية عند الغذامي القائلة بأزلية وتاريخية النسق الثقافي القادر، من منظوره، على اختراق كافة البنيات الخطابية والأنساق الإبداعية والفكرية والفلسفية...ولا مع مقولة موت النقد الأدبي وإلغاء وظيفته، مادام يقر، صراحة، بوجود خطابات ومناطق في الفكر والإبداع لا تعني النقد الثقافي من جهة ثانية. ثم إننا نسجل على الغذامي تحذيره المبالغ فيه، إن لم نقل المغالي، من الخطاب الجمالي وتحميله مسؤولية إخفاء الأنساق وتكريسها ونشرها. فخطاب نقدي يصف الجميل بالخطورة، ويحذر منه بكل هذه الأوصاف والعبارات المخيفة لن يكون بدوره إلا متوجسا، حذرا، متخوفا منه، أو على أقل تقدير قلقا من وجوده، وبالتالي لن يكون حكمه محايدا. وليس هذا اتهاما منا للغذامي بالذاتية، أو الانحياز ضد الجميل، لكن واقع الأشياء يثبت، كما هو أيضاً في التصور الأصولي، أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. ونحن هنا نضع، فقط، اليدَ على زئبقية المفاهيم وهي تنفك عن نسقها التاريخي الخاص وقصديتها التي كرستها المؤسسة النقدية الأدبية. مسافرة، قسرا، إلى بناء نظري جديد، "ومؤسسة نقدية جديدة"، ففي النهاية خلق الغذامي نسقا مفهوميا جديدا لمشروعه في النقد الثقافي، له ترابطاته وتشابكاته، وعلاقاته اللوغوسية الواضحة، لكن على هذا الخطاب المؤسساتي الجديد أن يحفظ لهذه المفاهيم حقها في مقاومة التدجين أيضاً حتى يكون متوافقا مع مبادئه أو نماذجه الإرشادية.

ثم لنلاحظ أن غالبية المفاهيم التي حاول الغذامي أن يطوّعها هي إما مفاهيم بلاغية عربية كلاسيكية (المجاز، التورية) أو بنيوية ولسانية (النسق، الجملة النحوية، الجملة الأدبية، الدلالة الضمنية، الدلالة الصريحة). فيعمم هذه المفاهيم لتشمل كل النقد الأدبي الذي يحد وظيفته في ترسيخ جمالية الجميل، وهو قول حق إذا اقتصرنا على مناهج النقد الأدبي النصيّ التي تبحث في الأدبية شأن البنيوية والنقد الجديد وحتى النقد السيميائي؛ لكن النقد الأدبي يضم أيضاً النقد الماركسي، الذي لم يكن يُعنى بسؤال الأدبية (أو سؤال الجميل) في المقام الأول، فالنقد الماركسي الذي يقول بنظرية الانعكاس، يرى أن الأدب "يجب فهمه في الواقع التاريخي والاجتماعي في ضوء التفسير الماركسي لذلك الواقع" (26) ، أما البنيوية التكوينية التي تولي اهتماما نسبيا للبنيات الاستيتقية (الشكلية خاصة)، فيقول لوكاتش أحد أبرز منظريها، إن الأدب "هو انعكاس لتكشف جدلي هو الواقع، وأن وظيفته أن يكشف عن نمط التناقضات التي من وراء بناء اجتماعي معين" (27) .

وإذن فالغذامي اختزل النقد الأدبي في البلاغة الكلاسيكية والنقد الأدبي النصي، ولو اتجه، توسيعا للرؤية مثلاً، إلى النقد الخارج- نصيّ بوصفه تنويعا آخر للنقد الأدبي، لكان خطابه أقل حدة تجاه النقد الأدبي بما يعفيه من أن يكرس، بوعي أو من دونه، نسقَ الإلغاء والذي، يا للمفارقة، يقصد إلى فضحه، وهذا يعني أن خطاب الغذامي نفسه يعاني من خطر استعادة النسق.

لقد وقفنا في هذا المبحث، في محاوره الثلاثة، على مفهوم النقد الثقافي كما يقدمه الدكتور عبدالله الغذامي في كتابه المؤسس "النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية."، ورأينا كيف أن إعلان موت النقد الأدبي، برغم كل الاحتراسات المقدمة تلافيا لقراءة خاطئة، كاد يكون، أو هو كذلك حقا، تمجيدا للنسق الثقافي مجسدا في الإلغاء الذي يكرس الصوت الواحد، بحيث إن الإقصاء هنا قد يكون تأسس، دون وعي، على تصور يرى النقد خطاباً أقوى من الإبداع وأسمى مرتبة، وهي مرتبة يبدو أن النقد الأدبي، حسب الغذامي، قد تخلى عنها، بما أنه خطاب مهادن جعلته البلاغة خادما للشعر يبحث في أدبيته وجماليته. إن النقد الثقافي بهذا المعنى عند الغذامي ثورة على هذه المهادنة التي جعلت الشعر مركزاً، بدل النقد، ولكأن النسق ذاته يتغول في خطاب الغذامي ليعيده إلى المركز الذي تخلى عنه بسبب من البلاغة التي يحتويها الشعر ويتملكها. وسنحاول في المبحث الثاني ضمن هذا الفصل الوقوف على نموذجين حاورا مشروع الغذامي النقدي، أحدهما الباحث السوري عبدالنبي اصطيف في كتاب (نقد أدبي أم نقد ثقافي) وثانيهما الباحث المغربي سعيد علوش في كتابه (نقد ثقافي أم حداثة سلفية).

الصفحات