كتاب "علي فودة..
أنت هنا
قراءة كتاب علي فودة.. شاعر الثورة والحياة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
فتعبيرات: «القمر»، و«مدور»، و«الرغيف كان شهيّا»، و«حدّق في»، و«حدّقت في ذاك الرغيف»، و«تسوّلْت»، و«حطّ النزيف» من العبارات التي تتكرر في أحاديثنا اليومية. وزيادة على ذلك، فإن طريقة بناء الجملة تقترب من بنائها في الخطاب اليومي. وهذا شيءٌ لافت في قصيدته «عودة سندباد»، عندما يستحضرُ عن طريق الكلمات، والتراكيب، ذكريات الحياة في أجواء القرية، وما تنمازُ به من بساطةٍ، وفقر:
«وكسرة خبز
مغمسة بدمع الأرض
ترى هل تذكرين أميمتي
صخب العفاريت الصغيرة
وكوب الشاي للأطفال في عزّ الظهيرة
أما زالوا عفاريتَ يحبّون الحكايا
في الشتا حوْل المواقدْ
وجدّتنا أما زالت
تحدثهم عن الأشباح والغولة؟»(15).
الرؤية الشبقية
شُوهِدَتْ مع علي فودة ذات يوم ترجَمَةٌ لديوان «أزهار الشر» للشاعر الفرنسي بودلير، فسُئلَ يومئذٍ عن هذا الديوان، فأجاب بمثل ما أجاب به أبو تمام عندما سئل عن ديواني بشار بن برد، ومسلم بن الوليد، فقال: هذان هما اللات والعزّى، وأنا أعبدهما. والحق أن درجة ولوع الشاعر فودة بشعر «بودلير» لا تصلُ حدَّ العبادة، لكنّه تأثر بقصائد ذلك الديوان تأثراً واضحاً ولا سيما في موقفه الشعري من المرأة. لذا لا نستغربُ أن يسمي الشاعر مجموعته الثانية «قصائد من عيون امرأة» بعد تسميته ديوانه الأول «فلسطيني كحد السيف»؛ فكلّ من العنوان الأول والثاني يضعنا على طرفي نقيض. هذا النقيض لا ينبع من التخلي عن سؤال الهوية إلى سؤال الذات، والوجدان؛ وإنما ينبع أيضاً من روح العدمية، والعبث التي طغت على قصائده هذه، بحيث يحارُ المرء إن كان علي فودة، صاحب الديوان الأول، هو نفسه صاحب «قصائد من عيون امرأة»:
«رأيت نهديك يطلانِ
عليّ من تحت القميصْ
يرتعشانْ
ويبكيان للنجوم
وكان خلفنا القمر
يرْقب في ضجر
فراشةً تضحكُ ساخرة
من شاعرٍ مجنونْ
يحبّ عاهرة» (16).
وهذا الحبّ الذي يصفه الشاعر بالشرير، لا يخلو من «إشراقات» مصدرها الإحساس العميق بالألم، والشعور بالخيبة التي تشبه انفراط عقدٍ، أو السير في الدروب دون قدرة على الرؤية؛ فكأنّ الشاعر وحبيبته ضريران يخبطان في تيه الحياة خبط عشواء. وهذا لا يعني أنّ الشائعات لا تلاحقهما، ولا تصفّ حبهما بأنه شرٌّ كلّه:
«لكن حبْل حبنا المجدول بالآهات والدموع
حبل حبنا المرير
قد انقطع
مثل قلادةٍ من الوَدَعْ
لأننا كنا ضريرينِ،
وكان حبّنا ضريرْ» (17).
ولا بأس أن تخالط الرؤيةَ الشبقيّةَ لدى الشاعر بعضُ الالتفاتات إلى البكاء، والدمع السخين، والشقاء، وربما كانت الثمرة اليابسة التي يرمز بها الشاعر إلى جنينٍ وُلد سفاحاً، والتركيز عليها، وتكرار الإشارة إليها في غير قصيدة، من العلامات الدالة على تأثرهِ ببودلير، وأزهاره:
«ومرّ عام
وجاء ابننا الحرام
لكنه جاء إلى الوجود دون أهل» (18).
وعلى نهج بودلير، (الشاعر الرجيم)، يكثر علي فودة من تقريع الأصدقاء، وتوبيخهم، باعتبار أنهم خدعوه وخانوه، وربما أكلوا لحمه حيّا ولم يكرهوه. واتشحت قصائده في هذا الديوان بمشاعر الخذلان، والإحساس بالاغتراب وسط مجموعة كبيرة من الرموز التي تمثل الغدر في نظره:
«أيتركني الأحبة هكذا أذوي صباحَ مساء
أيحيا هكذا الشعراء في بلدي
أيحيا هكذا الشعراء
بدون زمن
بدون صحاب
بدون وطن
أيحيا هكذا الشعراء؟» (19).
ويتكرر هذا الإحساس في قصيدة أهداها إلى «شلة أعرفها وتعرفني»؛ فقد كان كثير الظن بالآخرين، قليل الثقة بمحبتهم له، أو حتى بصدقهم نحوه، فهو، بلغة صريحة، مباشرة، يخاطب أصدقاءه قائلاً:
«لسْت من روّاد مقهاكم أنا
فاعتقوني
لا تلوكوا لحْميَ الأخْضرَ لا
لا تغوصوا في جراحي وشجوني
لسْت منكم أصدقائي
فدعوني
واغفروا لي أصدقائي
اغفروا لي بعض ذنوبي وجنوني» (20).
والغريبُ أن هذا الشاعر الذي يعيش تجربتين في أقل من سنواتٍ ثلاث بين عامي 1969 و1971 يكثر من التقلب، والدوران حول النفس، والتمركز تارة في سؤال الهوية، وتارة في سؤال الذات، ليفجأنا بأن القصيدة عنده تمثل انفتاحاً مرّةً، وانغلاقاً مرّةً؛ فهو في قصيدة «الشيء» يتوقع موته القريب:
«وكنت طائراً مغرّدا
أسْرَحُ في المدى
لكنني الآنَ كما الشيء الغريب
لا بدّ أنْ أرحلَ عن قريب
فربما اليومَ وربّما غداً» (21).
وفي «بطاقة حزن» يصرّ على الحياة إلى أن يعود أدراجه إلى وطنه الحبيب، وإلى قبر أمه على طريقة الشاعر بدر شاكر السياب:
«يا ذاهباً وطني الحبيب
عرّجْ على أمي الحبيبة في التراب، وقل لها:
إنّ الغريب
سيظلّ طولَ العُمْرِ مهْموماً غريبْ
حتى يعودَ إلى الوطن» (22).
وهكذا نجد مجموعته «قصائد من عيون امرأة»(23) تمثل تذبذباً واضحاً في اعتناق قضية واحدة يتغنى فيها الشاعر بشعره، ويكرّس لها جلّ جهده؛ فهو تارة يتغزل غزلاً شبقياً بامرأةٍ لا يتعفّف في وصفها بالعاهرة، والمومس، إلخ... وتارة نجده ناقماً على أصدقائه، يصفهم باللصوص حيناً، وبأصدقاء السوء حيناً آخر، وبأكَلة لحوم البشر في حينٍ ثالث:
«أصدقاء السّوء مرّوا خلف بابي
لم يبالوا بعذابي
أمسِ مرّوا
سرقوا جيبي وقلبي وشبابي
ثمّ راحوا»(24).
ونجده مرّة يتحدث عن الأب مازجاً بين الأبوة والتدليس، ومرة يتحدث عن الغربة وعن الوطن الحبيب وعن الأم، مازجاً بين نموذج الأم الفقيدة وزوجة الأب الظالمة، المستبدة، مما يدخلنا في فلك الشخصية (أي شخصية الشاعر وصلتها بشعره)، وأياً كان الأمر، فإنَّ ديوان «قصائد من عيون امرأة» يؤرخ لمرحلة من حياته، وهي مرحلة طبيعية يكاد يمرّ فيها كل شاعرٍ، أعني مرحلة البحث عن إطارٍ خاصّ لتجربته الفنية، وأدائه الشعري، وهو ما عثر عليه علي فودة في ديوانه «عواء الذئب» (1977) و« الغجري» (1981) و«منشورات سرية للعشب» 1982، ومن المؤكد أنّ الشاعر لو كتبت له الحياة أكثر مما عاش لتجاوز الكثير من شعره الذي بين أيدينا الآن؛ إذا ما علمنا أنّ لتجربته ببيروت مذاقاً خاصاً، ونكهة مميزة، أضافت الكثير من التغيير في لغته، وأسلوبه الشعري، الذي عرف به في شعره المبكّر.