كتاب " غرفة أبي " ، تأليف عبده وازن ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب "
قراءة كتاب غرفة أبي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

غرفة أبي
كنت كلّما صادفتني شخصية البوسطجي في رواية أو قصة أقف أمامها طويلاً وأعاود القراءة مستعيداً ذكرى الزمن الذي ولّى، الزمن الجميل، الذي كنت وما زلت أسمّيه زمن الأب. لطالما سررت بما كتب يحيى حقي وإبراهيم أصلان وسواهما عن هذا البوسطجي الذي غاب وانطوت معه حكاياته البديعة. الآن ما عدنا نبصر بوسطجياً، وأبوابنا ما عادت تطرقها يد. موظف البريد بات يتصل بنا لنذهب إلى المكتب ونتسلم الرسائل التي باتت نادرة جداً. أما ما يصلنا إلى البيت فهو بريد عملي: فواتير وإيصالات وهلمّ جراً. الرسائل الآن صارت تصلنا عبر البريد الالكتروني الذي غزا الكون، هذا الكون الذي بات يوصف بـ "القرية العالمية"، وما أبشعها "قرية" وما أبشع هذه الرسائل التي نقرأها على الشاشة الفضية من دون أن نلمسها ونتحسّس دفئها ونشمّ حبرها. ما كان أجمل زمنك أيها البوسطجي.
لا أدري أيها الأب إن كنت أكتب إليك رسالة، أقول مرّة أخرى وأخرى من شدّة حيرتي. إنني أكتب بالقلم وعلى أوراق بيض. شئت أن أكتبها هذه الرسالة بالحبر، مع أن جهاز الكومبيوتر على الطاولة وبتّ أكتب عليه مجبراً أو مكرهاً، فأنا رغماً عني أصبحت ابن هذا العصر البشع، عصر الأبناء، عصر الابن الذي هو أنا، عصر الأحفاد الذين سيأتون. لكنها البشاعة الخادعة التي تجعلنا نحبّها ونعجب بها، مع أننا نعلم تماماً أنها خلو من الروح والصفاء والسحر. لم نعد نعلم أيها الأب ما هو الجمال. عصرنا شوّه مفهوم الجمال. حتى جمال القبح لم يبق جميلاً. حتى القباحة لم تبق قباحة. لم نبقَ قادرين على التمييز بين ما هو جميل وما هو قبيح. لقد اختلط الجمال بالقبح وكادا يصبحان حالاً واحدة. لم يبقَ من خيط يفصل بينهما. هذا ما يحصل في عصرنا أيها الأب، عصر الأبناء. بات الجمال مثاراً للشك مثله مثل القبح. صرنا نخاف على الجمال من الجمال نفسه. في عصركم كان كلّ شيء أجمل. كلّ شيء. هل أقول هذا لأن عصركم أمسى ضرباً من الذكرى؟ إلا أنّ الذكرى أجمل دوماً من الحاضر مهما كانت حزينة. كان كلّ شيء أجمل في عصركم، هذا العصر الذي لا يقاس بالسنين، الذي يقاس بالعواطف، بالمشاعر والأحاسيس الصغيرة. عصركم الذي ولّى. عصركم الذي يولّي أكثر فأكثر. حتى الصابون كانت له رائحة أجمل: هكذا تقول فيروز في أغنيتها. حتى الليمون والزيتون... حتى عينا الحبيب. ما آلم هذه الأغنية التي ترثي فيها فيروز عصركم: راحوا. أجل رحتم وراح معكم كلّ شيء جميل. لا أعلم إن كنت أبالغ ياأبـي، لكنّ هذا ما أحسّه فعلاً. حتى الحبّ الذي كنت أحبّه كان أجمل. هل أبالغ؟ حتى الوجوه. حتى الصور. حتى الشوارع. حتى الأرصفة. حتى البحر. الشواطئ. السطوح. الأحراج... هل لأننا نتذكر؟ هل لأن الجمال الآن وقع في "فخ" الاصطناع؟ هل لأنّه أصبح خدعة؟ هل لأنّه أصبح جمالاً افتراضياً؟ إننا نكاد ياأبـي نصبح كائنات افتراضية، نحيا وكأننا لا نحيا، نموت وكأننا لا نموت، كأن كائنات أخرى تحلّ محلّنا بينما نحن نفتح عيوننا مدهوشين، صامتين، مقموعين. كأننا لسنا نحن، كأننا سوانا.
أكتب إليك بالحبر، على ورق طالما أحببته، وسأظلّ. الشاشة الفضية الصغيرة باردة والضوء الذي ينبثق منها خادع، هذا ضوء مصطنع مثل حياتنا الآن، يبهج العين ويجعلها ساهية. على هذه الشاشة تبدو الأحرف جميلة لكنها بلا روح. أي سطر تكتبه يغدو جميلاً وإن كان حفنة من كلمات لا معنى لها. هل يمكن شخصاً- مثلي- أن يكتب من دون أن يشمّ رائحة الورق؟ من دون أن يملأ الصفحة بالبقع السود التي تخفي حالاً من الحيرة والارتباك؟ هل يمكنني أن أكتب بلا ورقة تفضح أسرار ما أكتب؟ المسوّدة أيها الأب اختفت. أصبحت الكتابة بلا مسوّدة. أصبح الأدب بلا مسوّدات. لقد تلاشت الأسرار مع تطاير الأوراق في الريح، لكنني أعترف أنني ما زلت أقاوم فكرة التخلي عن القلم والانصراف إلى الكتابة على آلة الكومبيوتر، مع أنني بتّ أتقنها رغماً عني. ما زلت عاجزاً عن تصوّر نفسي جالساً أمام الكومبيوتر أكتب مباشرة عليه، قصيدة أو نصاً أو حتى مقالاً. أكتب به أو أكتب عليه؟ لم يُحسم أمر الكومبيوتر حتى الآن لغوياً. نقول نكتب بالقلم على الورقة، أما في شأن الكومبيوتر فإننا نكتب به وعليه وكأنه القلم والورقة في آن واحد.
ما زلت أقاوم فكرة هذه الكتابة "الاصطناعية" التي تخيفني أو ترهبني نفسيا، مصرّاً على حمل القلم والكتابة به، مستخدماً كعادتي دوماً، يدي اليسرى، أنا الرجل الأعسر الذي طالما فرح بهذه الخصلة التي منحته إياها الحياة. أعترف بأنني تعلّمت الطباعة على الكومبيوتر بعد جهد. أقول أطبع على الكومبيوتر ولا أقول أكتب. الاختلاف بين هذين الفعلين ليس بالقليل. فالكتابة مباشرة على الكومبيوتر عمل معقّد، لم أتمكن حتى الآن من استيعابه. أكتب بالقلم ثم أطبع ما كتبته على الكومبيوتر. أما الكتابة عليه فما زالت أمنية، أخشاها بقدر ما أطمح إلى تحقيقها. ولعلني، سأسخر من نفسي لاحقاً عندما أجدني جالساً أمام الآلة أكتب عليها مباشرة، نصاً أو قصيدة. أشعر أن قدر الكومبيوتر لا مفر منه، مهما حاولت أن أتواطأ ضده أو أن أتآمر عليه.
هل يأتي زمن أتخلّى فيه عن القلم نهائياً؟ هذا السؤال شائك ومربك فعلاً. لكن جوابـي أنني لن أتخلّى عن هذا الرفيق، اللطيف والأنيس، حتى وإن دخلت عالم الكومبيوتر وغرقت فيه. حتى الآن ما زلت أستهجن فكرة العلاقة بين الرأس ومفاتيح الكومبيوتر. هل يمكن الأفكار أن تسري من الرأس فوراً إلى هذه المفاتيح الباردة؟ هل يمكن مفاتيح الكومبيوتر أن تحلّ محلّ القلم؟ لا أعتقد أن العلاقة الحميمة بين القلم والأصابع، بين اليد والورقة، ستضاهيها العلاقة بين المفاتيح والأصابع. الدفء هناك ينقلب برداً هنا. وبياض الورقة يستحيل فضة تبثها شاشة قادرة على خداع العين وإيقاعها في شركها. والدم الذي يسيل مع الحبر من شرايين اليد التي تحمل القلم، يمسي أشبه بالمصل الذي تبتلعه الشاشة المضاءة. هل أنا شخص تقليدي؟

