قراءة كتاب غرفة أبي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
غرفة أبي

غرفة أبي

كتاب " غرفة أبي " ، تأليف عبده وازن ، والذي صدر عن منشورات ضفاف .
ومما جاء في مقدمة الكتاب "

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 10

لا أعلم حقاً إن كنت أكتب إليك أم أكتب لنفسي. كلّ ما أعلمه أنّك لن تقرأ هذه الرسالة وهذا عزاء لي. إنني أكتب عنك كما يحسن لي، كما أراك الآن أو كما ألمحك بعينَيْ هذا الفتى الذي لم يتسنّ له أن يعرفك. وأجمل ما في مثل هذه الكتابة حيرتها أو ارتباكها. أب ليس غائباً فقط بل غريب وشبه مجهول. أب أستعيده من عالم الظلال لأستعيد عبره نفسي ولأنتقم منه ومن نفسي دون إحساس بذنب. كأنني حين أستعيدك أقتلك بالسر، لا أحييك. هذا قتل مجازي أيضاً. كأنني عندما أستعيدك أعاود خلق تلك الناحية الخاوية من طفولة كانت لي، ذلك الجزء الأليم من سيرة لا تكتمل مهما طال العمر. إنني أسعى إلى توضيب الحياة التي عشتها بنقصانها، إلى رسم صورة شخصية لي من خلال نظرتك. كيف كنت لتكون لو ظللت حياً؟ هل كان العالم ليكون أجمل؟ والحياة؟ هل كان يمكنها أن تكون أشد سحراً؟ هذا النقصان الذي فيّ هل كان ليمتلئ أو ليتلاشى؟ أسأل نفسي ولا أسألك. إنني أحدّث نفسي كما لو كنت أمام مرآة. إنني أكلم نفسي بصوت خافت. إنني أحاور نفسي وكأنني هاملت، هاملت ولكن وحيداً على شرفة قصر وهميّ. أنا المتكلّم وأنا المخاطَب. أنا من يتكلم وأنا مَن يسمع. هذا مونولوغ صامت يؤدّيه شخص في رواية لم تُكتب ولن. ليست هذه كلمات بل أمواج تجتاز الروح، أفكار تتموّج، أحوال يتقاذفها بحر الليل في ضوء قمر خافت. ليست الكلمات هي التي تقال، بل ما وراءها، ما تحتها، ما يظل صامتاً فيها، أبكم ومتكدّراً، قاتماً وملغزاً. لا يهمّني أن أوضح ما أعيش أو أحسّ أو يعتمل فيّ، يهمّني أن يظل الغامض غامضاً والحائر حائراً والناقص على نقصانه.

كنت أعجب من الذين يكرهون آباءهم كراهية مطلقة، فلا يجدون فيهم ولو قبساً من عطف أو حنان. هؤلاء لا يكرهون الأب الذي ولدهم فقط بل فكرة الأبوة. الأب هو السلطة التي يجب الانقلاب عليها. الأب هو التاريخ المشبع بالدم الذي تجب مواجهته. الأب هو الوحش المختبئ في ثوب راهب. هكذا كان هؤلاء يتخيّلون آباءهم. أحد الأصدقاء لم يزر أباه مرّة خلال احتضاره الطويل، وعندما توفّي لم يشارك في جنازته ورفض تقبّل التعازي. لا أعتقد أنّ أحداً بلغ شأو هذه القسوة. يقتل الابن أباه حيّاً أما أن يقتله ميتاً فهذا أمر يتخطى القتل نفسه. يمسك الابن بعنق الأب الراقد على سرير الموت ويخنقه مرّة تلو مرّة. أو يطلق على جثته عشرين رصاصة مع أنه يعلم أن رصاصة واحدة تكفي. هذا مشهد يميل إلى أن يكون سينمائياً، أي متخيّلاً. فالقتل هنا واقعي ورمزي في آن واحد، واقعي ومتخيّل أيضاً. إنه القتل في أقصى تجلّياته.

إلا أنّ قتل الأب غالباً ما يتم في الروايات والكتب وعلى الشاشات. هذا القتل يظل نظرياً، وفي منـزلة التمنّي والتخيّل. عاش أنطونان أرتو، هذا الحكيم المجنون سبعة وعشرين عاماً في صميم "الكراهية الغامضة للأب" كما يقول. ولم يخلد إلى الراحة التي هي الاضطراب الداخلي إلا بعدما رحل والده. محمد شكري قتل أباه أكثر من مرّة في "الخبز الحافي" وأنـزل عليه لعنته وانتقم منه لنفسه وبال على قبره. أتذكر أيضاً كيف لجأ بازوليني إلى لغة أمّه في شبابه وهي "الفريولية" متمرّداً على لغة أبيه الذي كان يكرهه ويكره فيه فكرة الرجولة المتمثلة في الزيّ العسكري الذي يرتديه. اختار في صباه لغة الأم ثم صورتها ثم أعلن مثليته جهاراً ضدّ الأبوة وانحيازاً إلى الأمومة. انتصر بازوليني لمقولة اللغة- الأم، بجسده وروحه. وهل أجمل من أن تكون اللغة من شجون الأم؟ كان جان بول سارتر يردّد "أنّ ما من أب صالح" لكنّه في مذكراته "الكلمات" لم يكن قاسياً على أبيه. وحده هاملت قلب المعادلة وانتقم لأبيه. وحده هاملت قتل قاتل أبيه، قتل عمّه انتقاماً للأب وانتقاماً من الأم التي لم تكن بريئة من قتل زوجها. أما كافكا فلم يستطع أن يتحرّر من الخوف الذي زرعه الأب في دخيلته وظل يعاني الشعور بالعجز أمام فكرة الأبوة التي كانت تسحقه جاعلة منه غباراً. أتذكّر صور الأب هذه كما تخيّلتها في الكتب، كما أبصرتها على الشاشة، ولو بحثت في ثنايا الذاكرة لعثرت على المزيد منها... ثمّ ماذا عن "الأخوة كارامازوف" والأب. هل يمكن نسيان هؤلاء الأخوة وأبيهم فيدور الذي لم يكن بريئاً من الجريمة التي اقترفها الأبناء وإن بيد أخيهم غير الشقيق سمردياكوف؟ بلغت كراهية الأب في هذه الرواية ذروتها عندما أصبح الأب بمثابة الخصم، في الحب كما في الحياة وعيشها. كان الأب خصم ابنه ميتيا في عشق المرأة اللعوب غروشنيكا. كان ميتيا يحبّها، لكنّ هذا الحب سرعان ما وقع في الخيبة عندما أصبح والده منافساً له أو خصماً، في هذا الحبّ. أما إيفان فكان يحتقر هذا الوالد وسمردياكوف يكرهه جرّاء قسوته التي كان يبادره بها. وحده أليوشا ظلّ بمثابة الابن المتفرّج. كانت فكرة القتل تساور ميتيا العاشق الخائب وإيفان، وكانا عاجزين عن المضيّ بها. لم يكونا قادرين على قتل الأب بالجسد. لكنهما لم يتوانيا، عن دفع سمردياكوف الابن غير الشرعي، شبه المعتوه والذليل، إلى تحقيق هذا "الفانتسم" الذي يقضّهما، فيقتل الأب، ولا يلبث لاحقاً أن ينتحر.

لا أدري ما الذي دفعني إلى استعادة هذه الرواية الساحرة. لا أدري لماذا سردتها بهذه السرعة وكأنني أسردها لنفسي، أو لك أيها الأب. عندما أحبّ رواية أحبها بصمت. لا أحب أن أفسّر لماذا أحببتها، مثل كلّ ما أحبه من حولي أو ممّا لا أراه. لكنني لطالما كرهت الأب فيدور كرمز وليس كشخصية ابتدعتها مخيلة العبقري دوستويفسكي.

أتذكّر أيضاً بول أوستر وكيف رثى أباه في نص له عنوانه "صورة شخصية لرجل غير مرئي". هذا نصّ يغرب في مديح الأب بُعيد رحيله، مستعيداً إياه لئلا تترسّخ فكرة موته في ذاكرة الابن. أتذكر سهيل إدريس في مذكراته وكيف فضح أباه الشيخ عندما كان يضاجع غلاماً. ما أقسى هذه الطعنة التي وجّهها صاحب "الحيّ اللاتيني" إلى والده. ألغى أبوّته في لحظة هي لحظة الاعتراف هذا. كأنّه شعر هو بالإثم الذي ارتكبه والده فكفّر عنه بالاعتراف به. كأنّه لم يحتمل هذا الإثم طوال الأعوام التي صمت فيها عنه ولمّا أصبح أكبر من أبيه باح به ليشفى من هذا الجرح الذي أنهك حياته.

كم جذبتني الكتب التي تتحدّث عن الأب، عن الأب والابن، عن حبّهما واحداً للآخر أو عن كراهيتهما أباً لابن، ابناً لأب. كنت كلّما وقعت على رواية تدور حول هذه العلاقة المعقدة والمبهمة، أحتفظ بها. حتى النصوص التي يمرّ فيها ذكر الأب كنت أضمّها إلى أدراج مكتبتي. كنت أبحث بنهم وبالخفية عن مثل هذه الكتب، أياً يكن مصدرها أو أصحابها، بالعربية أو بالفرنسية أو معرّبة. وكثيراً ما شعرت أنّ الصدفة تتيح لي أن أقع على مثل هذه الكتب. وكنت أقرأها بشغف الابن الذي هو انا، الذي ليس أنا، الذي يبحث عن صورة لأب كان يوماً أباه. أتذكر كيف بهرني كتاب للبريطاني روديارد كيبلنغ الذي كنت أتحاشى قراءته جرّاء مقولته الشهيرة التي راجت في عالمنا العربـي: "الغرب غرب والشرق شرق ولن يلتقيا"... قد تكون هذه المقولة صحيحة لكنّ ما دفعني إلى كرهها أنّ الشرق هو المُدان هنا وأنا شرقي، ما يعني أنني أنا المُدان... الكتاب الذي جذبني سمّاه كيبلنغ "ستصبح رجلاً يابُنيّ" وأُرفق بعنوان آخر "رسائل إلى ابني". لكنّ الكتاب ضمّ رسائل متبادلة بين الأب وابنه. ورسائل الابن كانت آخر ما تبقى منه بعدما فُقد في الحرب بين بريطانيا وألمانيا واختفى فلا بان له جسد ولا أثر. كان جون في السابعة عشرة عندما التحق بالجبهة الفرنسية عام 1914. ومن هناك كان يراسل أباه، وهناك في الجبهة كان يتلقّى رسائل أبيه. كان الأب يتودّد إليه مسمّياً إياه "عزيزي العجوز" وبدا في رسائله كأنّه يعيش ألم الابن أكثر من الابن نفسه. يشجّعه ويخفف من وطأة عزلته وقسوة الحياة العسكرية. أما الابن، الذي هو العسكري، فكان يلاطف أباه قائلاً له: "عزيزي الأب" وكأنّه صديق وليس أباً. رسائل عاطفية تدمع لها العينان، وقوّتها في ما تحمل من ضعف، ضعف الأب أمام الابن، وضعف الابن إزاء أبيه... مرض كيبلنغ بعد رحيل ابنه، والأحرى بعد اختفائه وعدم عودته إلى منـزل الأب.

الصفحات