أنت هنا

قراءة كتاب الفلسفة والنسوية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الفلسفة والنسوية

الفلسفة والنسوية

كتاب " الفلسفة والنسوية " ، تأليف كوكبة من الباحثين ، اشراف وتحرير د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 6

ذكورية أبية وراء خلفية تيولوجية

لو تأملنا في بعض المرجعيات الدينية، فإننا نقف على صورة سلبية للمرأة، بل مكانة دونية، تفتقر إلى الرفع من مكانتها إلى مرتبة الإنسان. فنجد التحريم والتجوير، بل أنّ النظرة للمرأة تستند إلى بنية فكرية مُنشدّة إلى أفق فكري يكاد يكون قبرا ووأدا. إنها اللعنة التي تحيط بالمرأة، وكلما اقتربت من "جنان" الرجل إلا وأفقدته نظارته وصفاوة فكره.

فمثلا، بالرجوع إلى بعض ثنايا الديانة اليهودية وتعاليم التلمود، فإنّ المرأة لا يجوز لها تلاوة التوراة، بل ليس لها الحقّ حتى المشاركة في العبادة. والقصد من ذلك أنّ المرأة ليس لها القدرة والحكمة في تأويل نصّ التوراة، وفهمه وتفسير معانيه، بل أنها يمكن ان تُفرغه من قدسيّته. هي ذي منـزلة شيطانية للمرأة يراها القائمون على تعاليم التوراة. فهي إذن أدنى من الرجل، بل أنّ التحقير يصل إلى تصنيفها في مرتبة الحيوان.

هذا الاقصاء، وعدم الاعتراف بالمرأة يرتقي لدى بعض المفكرين والفلاسفة إلى اعتبار المرأة "لعنة" تطارد الرجال، وكان على الأب أن يبيعها. إنّ المرأة في بعض مآثرهم "أمرّ من الموت... وأنّ الصالح أمام الله ينجو منها". إنّه تصوّر يُوحي لنا بلحظة الجاهلية حيث أنّ المرأة وجب وأدها إنقاذا لشرف العائلة، بل إنّها تُفقد الرجل، كما العائلة صيتها في جاهلية يرى فيها وعاء يشرب منه الرجل، فيزداد ذكورية.

هي عقيدة إذن ترى المرأة ضلعا من آدم لتكون رفيقا للرجل وأنّ وظيفتها الأساسية هي السهر على أن يحقق الرجل لذائذه ليس إلا.

وهناك من الدعاة من يرون انّ اليهودي يحمد الله أن خلقه يهوديّا، وليس في غيره من الأديان، وأن خلقه رجلا وليس امرأة. من هنا استمدّ صكّ النواهي والاوامر والتصنيف والتحقير والابتذال. احتقار عميق يصل إلى حدّ اعتبارهنّ ثرثارات وكسولات. إنّ ضمنية هذا القول مفادها أنّ المرأة أمام هكذا تصنيف تبقى رهينة ذكورية تستمدّ ريادتها وسيادتها من نصّ ديني أساسه أن لا يُنظر إلى المرأة وكلّ عنصر أنثوي على أنّه عائق مثبّط فهي غير قادرة على أن تصل إلى درجة التفكير، فما بالك بلحظة الإبداع. فالإبداع يرتبط بالأنا المستقلة في آنيتها وشخصيّتها وصلابتها وقدرتها وصرامتها، وما المرأة في المستوى الديني، كما جاء في التلمود، إلا عبدا وقاصرا، لعدم استقلاليتها وارتباطها بزوجها. بهذا المعنى، تصبح المرأة نكرة وأنّ وجودها والعدم حدّ سواء، وأنّ ارتقاءها إلى درجة الإنسانية يظلّ كطلب الحكمة لأهل الكهف، حيث يستوي اليقين والجهل والخرافة لديهم، والظلال المرتسمة في عقولهم وأذهانهم وتصوّراتهم تدين الوضع والمكانة الإنسانيتين للمرأة في هكذا مسار.

ليس ببعيد عن هذا المسار، تمثّل المرأة في الديانة المسيحية. فهي الخادمة المطيعة لزوجها، بل أنها خاضعة إطلاقا لما يمليه عليها، فانتُزعت شخصيتها، بل ذاتها وانبتت انبتاتا في حقلها الوجودي.

هي صورة قاتمة للمرأة، موغلة في ظلمة ذكورية الرجل التي حوّلتها إلى فراغ يملأه الألم، ومآل مفرغ من الأمل.

لقد تصوّر البعض أنّ المرأة محراب لذة يقصده الرجل بعد ساحة وغاء، بل ركنا من أركان تعبّده الدنيوي ليفرغ شهواته الحيوانية ويتيمّم بطهر سحرها، فيزداد دنيوية ووحشية وتزداد ذكورته أنانة وتجبرا.

ألم تكن الأرض مهدا لكلّ زرع وأنّ لكلّ زرع هدف حتى وإن فقد دلالته ومنفعته؟ أليست الطبيعة بكلّ ما تؤتيه من تنوّع بيولوجي تخضع لسببيّة وانّ أضعف وأتفه ما في الطبيعة له من المكانة في حلقة التكوّن ما يجعل صغائر الأشياء أعظمها؟ أليست المرأة تكاملا: جسدا، وقلبا وعقلا؟ أليس عقل الرجل عُقالا على فكره إلى حدّ أنّه أصبح حدّا بينه وبين حسن تفكيره؟

تقودنا هذه التساؤلات إلى البحث عن سببية وعن مغزى لهذا الابتذال، أنّه عود على بدء لنتفحص هذه النظرة الدونية للمرأة وهل هي طبيعية أم أنّ تصلب نظرة الذكر لفكرة أنّ المرأة قادرة وجديرة هي التي تعيق تحرّرها فكريا وواقعيا؟

المرأة من الفكر السكولاستيكي إلى لحظة التمدّن

عرفت المرأة منذ التاريخ تأرجحا بين الفكر الكنسي الذي جعل منها خادمة وبين خيال الشعراء لتكون ملاذا آمنا للرغبة. وبذلك يظهر المشهد العجائبـي للمرأة، المتضارب بين القدرة على التأثير والمساهمة في الإبداع من جهة وحضورها السلبـي أنها خادمة لا تقوى إلا على الإتباع من جهة أخرى. إنّه نموذج يوحي لنا بزمن الإيديولوجيات الاجتماعية التي تعصف بالذوات من أجل فكرة. غير بعيد عن هذا المسار، نتتبع حضور المرأة في الحقل الفلسفي، وتحديدا لدى جون جاك روسو، لنرى كيف ينظر هذا المنظر للمجتمع وآدابه وقيمه لحضور المرأة من خلال كتابه إميل أو في التربية حيث يقترح تصوّرا لمفهوم المرأة ومكانتها في القرن الثامن عشر.

فهل كان التنوير نورا مضيئا للمرأة ومكانتها أم أنّه زاد من مأساوية حضورها ووضعها الاجتماعي؟

إنّ سؤال "ما المرأة"؟ الذي طرحه روسو في شذرات من كتابه إميل يجعلنا نقف على تحديد لهذا الكائن، الزوجة أو الأم، والتي لا يمكن أن يجد لها مكانة إلا كمرحلة أخيرة في تربية الرجل، بمعنى أنّ المرأة ليست طرفا أساسيا في تكوّن الرجل، بل مرحلة متأخرة. ويقدّم روسو في بابه الخامس من كناب إميل تعريفا للمرأة، مُحدّدا دورها ومكانتها أمام الرجل. فمن خلال مثال صوفي Sophie "المرأة الجميلة الساطعة أساسا لروحها وجمالها". نرى في هذا التعريف أنّ روسو يعتبر أنّ المرأة جُعلت أساسا لتحقيق رغبات الرجل وأنّ المرأة التي تصلح لأن تكون زوجة لإميل وجب أن تتوفر فيها خصائص كالجمال ونقاوة روحها القادرة على إضفاء المرح على الرجل. بهذا المعنى، تظهر المرأة على أنّها قانون طبيعي يرى فيه روسو شرط إمكان الفكر الاجتماعي وأنّ حضورها يقتصر على أن تكون وسيلة ووسادة. فالعلاقة بين الرجل والمرأة هي علاقة موازين أي علاقة بين طرف سلبـي والآخر يلعب دورا فاعلا. ويوكل روسو للرجل القوة والقدرة والسلطة وعلى المرأة أن لا تكون إلا ذلك الحمل الوديع، الضعيف. وينعكس هذا التصنيف بالضرورة على البناء الاجتماعي وكلّ أنواع العلاقات الاجتماعية.

ما يشدّنا حقا في هذا التصنيف بين رجل قويّ وامرأة ضعيفة هو سؤالنا من الذي حدّد وصف الرجل بالقوي والمرأة بالضعيفة. ألا يمكن أن يكون العكس أصح؟ أليست المرأة قادرة على أن تتمتع بالقوّة وتهبها للرجل؟ إنّ كبرياء روسو تأبى الإجابة عن هذا السؤال لتردّه إلى أنّ الرجل، بحركيته وحيويته، يحدّد مكانته كمسيطر وقوي لا في الحياة العاطفية فحسب، بل وكذلك في المجال الاجتماعي، لأنّ من يستشعر القوّة في ذاته والعظمة سيكون سيّد الموقف، وحضوره الاجتماعي عنوانا لمكانته وقوّته الأخلاقيتين.

لم يبتعد روسو عن هذه الفكرة التحقيرية للمرأة وأنّ سبب تصنيفها كمكمّلة أو "قانونا طبيعيا" أساسه أن تكون في خدمة الرجل، لذلك وجب أن تتلقى تربية تأهلها للعب هذا الدور. إذ أنّ تدريبها على مهارات جمالية وتكوينها في الرسم والفنون الجميلة يحسّن من طباعها الجمالية. فروسو يرى أنّه من الواجب أن تُحسن المرأة حسن فعل الأشياء جماليا وأن تتزين وتحسن اللباس حتى تعبر عن حضورها اجتماعيا. فالثقافة والتربية تظلان أساسية للمرأة في البناء الاجتماعي حسب نصّ روسو

هذا التصور يجعل من المرأة عنصرا يلعب دور تأمين حسن الحياة للرجل وأن تكون زوجة مهمّتها تربية الأطفال. ويعتبر هذا النوع من التربية الدور الطبيعي الذي وجب أن تلعبه المرأة. فهي التي تسهر على تأمين الترابط الأسري وعليها أن تتحمل كلّ ما يقدّمه الرجل حتى وإن أخطا. ويرى روسو في هذه الوظيفة إطارا يغذي إحساس الرجل بالقوّة والسيادة. إنّه صراع الأضداد: القوّة والضعف، الحكمة والاحتكام، القدرة والاقتدار. صراع حُتّم على المرأة أن تكون أحد نواة ذكورية ترى في اكتمالها Perfectibilité ضرورة تمدية المرأة. ولكن لمّا نستمع لروسو يمتدح المرأة بقوله: "إنّ المرأة هي في ذات الوقت صريحة، محبّة، وحكيمة، وهي من تُرغم الآخر على احترامها... إنها مملكة"، يدفعنا هذا القول في حدّ ذاته إلى الوقوف على الطابع الضبابـي لمؤسس التربية الحديثة، بل أنّ تلاطم أفكاره كالأمواج المنكسرة على الصخر تذكرنا بأنّ روسو، واضع أسس التربية الحديثة والسلوك التربوي، هو عينه من أقام علاقة غير شرعية وهو الذي ألقى بأبنائه أمام الملجأ. هذا المثال أردناه حتى نتبيّن بأنّ القوّة والقدرة ليست خاصية نوعية للرجل دون النساء، بل أنّها تُكتسب، وأنّ ما تعانيه المرأة أيضا ليس إلا إملاء من إملاءات ذكورية أبية تستمدّ عليائها من فكرة "الزعْم أنّ..."

إنّ النموذج المدرسي للقرن الثامن عشر ظلّ وفيا لإرث فلسفي كلاسيكي يراوح بين الأضداد من جهة، حتى وإن أقرّ بفكرة التناغم والتوافق Harmony من جهة أخرى، فإنّ الإقرار بأسبقية الفكر الرجولي تبقى نقطة الثبات وأنّ مجال التفكير يبقى مجالا للنخبة الرجولية. وهي فكرة متداولة إلى يومنا هذا حتى أنّ البعض يستسيغها ونبراسه في ذلك نصوص دينية متشدّدة أو تعاويذ أو أساطير.

إنّ تمثل صورة المرأة في هذا القرن الثامن عشر ككائن ضعيف وإرجاع سلوكها لكلّ الانفعالات، مردّه الطبيعة الطبقية والبنيوية للمجتمع في القرن الثامن عشر. ويبقى صداها إلى يومنا هذا في البنية الفكرية كما في البنية الاجتماعية. واعتبار المرأة هذا الكائن المتقادر والذي لا يمكن إلا أن يكون خاضعا لهذا "الضمير الجمعي" والأخلاق التي يمليها فينا المجتمع. وكأنّ الرجل يغنم بما قّدّمه المجتمع ليذبح فوق قدسيته كلّ لغة أنثوية، ومن ثمّة يستمدّ حضوره الفاعل. إنّ قواعد المجتمع تفرض على الرجل أن يكون فاعلا منافسا Compétitif في كلّ المجالات، ممّا جعله يفتح قارات جديدة باسم الريادة. فكان ذلك على حساب تقدّم المرأة.

الصفحات