"في ذكرى الغبار وشانيل" للقاص المحامي صادق عبدالحق صادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وهي مجموعة قصص تؤرّخ كما يقول، لنصف قرن وأكثر من السنوات مضت بين الوعي في العام 1946 والركود في العام 1996، ثم التوقف، متمنيا أن تكون المجموعة شهادة صادقة على الزما
You are here
قراءة كتاب في ذكرى الغبار و ((شانيل))
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 6
دون تردد··· خرج بلباسه البيتي وحرك سيارته إلى المكتب·
في الطريق أدار الحوار السابق مع نفسه من جديد: أم تراه يذهب إلى بيت والدته؟ لقد مضى على آخر زيارة لها أكثر من شهر؟ فماذا ستقول إن جاء وحده دون الأولاد؟ ستحقق معه وسيكون الأمر محتاجًا للتوضيح· أم تراه يذهب إلى المزرعة؟ في آخر الدنيا ويعود وحده؟! تنك بنزين كامل بلا هدف محدد···لا، هل يذهب إلى بيت أخيه ناصر؟ سيقول هو وستقول إمرأته ما الجديد؟ لـماذا يأتي اليوم؟ وهو لم يـفعل ذلك منـذ شـهـرين؟ ماذا حصل تُرى بينه وبين زوجته مجددًا؟! سينكأ جروحًا أو سيوحي بأن جروحه العائلية توشك على الانبعاث؟! أو تراه يذهب لبيت علي لا·
هل يتصل بمروان؟ أو بخالد؟ كلاهما اليوم مقيم في البيت مع أولاده شأن كل عباد الله الصالحين··· يوم عطلة مع الأولاد والزوجة أو ربما في نزهة··· لا···· يذهب إلى المكتب فعلاً ويتصل بتلك النمرة العتيقة الذكية مهرة؛ ستتساءل ماذا حصل؟ يوم جمعة·· هي ترفض - كما تقول - أن تكون احتياطًا إن هذه مشكلتها الأزلية معه· ستدرك أن دعوته لها اليوم تقع في باب اللجوء لهذا الاحتياط ومن يدري إن هو ذهب إليها أو اتصل بها أن يكون (رضا) قد جاء لأخذ البنتين فيكون قد أوقع نفسه مع (رضا) في شراك شبهات لا طاقة له باحتمالها·
وصل إلى المكتب، تصفح الأسبوعيات··· طلب إفطارًا من المطعم القريب، شرب الشاي وشعر بالاكتفاء· اتصل بها· لم يجدها بل لم يرد أحد على الهاتف· اتصل ببيت أخيه ناصر لم يجدهم· اتصل ببيت والدته فجاءه الجواب أنهم يستعدون للذهاب إلى مزرعة ناصر وأنهم كانوا يظنونه هناك·
حاول أن يكتب شيئًا ما في (روايته) التي لا تنتهي··· لم يجد بعد وجبة إفطار الفول والحمص خيالاً أو قدرة على الكتابة·
هذه هي المرة الثانية أو الثالثة التي يأتي فيها إلى المكتب ويكون وحده في المبنى كله·· لا أحد حوله وكل المكاتب الأخرى مغلقة بما في ذلك مكتب (الإعلان) المجاور· لقد سبق له في المرة الماضية التي جاء فيها إلى المكتب في يوم العطلة أن وجد سكرتيرة المكتب المجاور تعمل (ولا يذكر لماذا كانت هناك وحدها ذلك اليوم)·
وقد شربا يومذاك القهوة ودخنا معًا، وكان بوسعه أنذاك أن يعقد صفقة من الصداقة المفيدة رغم فارق السن بينهما فلم يكن انطباعه عنها أنها تمانع في أي نوع من الصداقة أما اليوم فلم يكن في الطابق كله وربما في المبنى بطوابقه الست، أحد غيره·
نظر عبر النافذة إلى الشارع العريض والمدينة الجاثمة العارية إلا من البقعة الكبيرة الخضراء الداكنة حول المدينة الرياضية··· كان صمتًا كبيرًا يلف المدينة رغم ملاحظته حركة السيارات· فتح زجاج النافذة فانفتح عليه صوت المرور دون صخب·
بعد قليل طفق صوت عال لا يشوبه شك أو خوف أو حيرة يهدر بالمؤمنين أن يثوبوا إلى الله· فكر: أين يثوبون؟ وكيف؟ وأن يغتنم كل منا شبابه قبل هرمه، وصحته قبل سقمه، وغناه قبل فقره···الخ
قبل أن يغلق النافذة أعاد الاتصال بها فأجابه صوتٌ رجوليٌّ ما·· ليس هو صوت (رضا) على كل حال· أقفل السماعة بهدوء، وحضّر لنفسه فنجانًا من القهوة وأخذ يتصفح أوراقه وينتظر حلول الساعة (2) ليعود إلى البيت قبل أن يحين موعد رفعة لأخذ السيارة·
حين نهض لإغلاق النافذة قبيل المغادرة، فوجىء بوجود عصفور كبير نسبيًا يركن إلى الزاوية الرخامية الخارجية لصق النافذة كأنما مكبًا على شيء ما·· مبلولاً أو كأن ريشه كان مبلولاً وجف·· لا يبدو جريحًا ولا مقصوصًا ولا مضروبًا· مدّ إليه يده؛ فلم ينفر أو يهرب وظن أنهما تبادلا النظر على نحو اعتيادي· تعجّب أنه لم يتفلّت إلى الطيران· ولم يدر ماذا يفعل به؟ هل يطلقه من يده ليطير؟ لو فعل لسقط - في الأرجح - إلى الأرض· هل يحتفظ به لسمير؟ يحتاج الأمر لقفص وهو على كل حال عصفور كئيب فيما يبدو وليس رشيقًا البتة··· بل يلقي به من النافذة من هذا الارتفاع فيضطره للطيران··· شكّ في ذلك وبدا له أنه لو قام بالقائه فعلاً فسيظل هابطًا إلى الأرض حتى يصطدم بها ويموت· ثم وجد أن خير ما يفعله أن يعيده حيث وجده تمامًا على حافة الرخام لصق النافذة من الخارج ثم يغلق زجاج النافذة بهدوء وليفعل بعد ذلك ما يشاء أو يقدر·
28/4/1995