هذا الكتاب لا يعتمد على التحليل النقدي لأعمال المخرج الإيراني الشهير عباس كيارستمي – وهي مهمة جوهرية، أساسية، وضرورية، لكنني لا أحسن القيام بها – بل يركّز بؤرته، هذا الكتاب، على ترجمة الحوارات التي أجريت مع هذا المخرج، المستمدة والمجمعة من مصادر مختلفة ومتع
You are here
قراءة كتاب عباس كيارستمي: سينما مطرزة بالبراءة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 6
في عدة مناسبات، كنت أمشي وأتنقل في شمالي ألمانيا عبر سيارات أشير لها بالتوقف لأركبها مجاناً، وهناك أسكن في بيوت أو فلل خالية من قاطنيها·· كنت بارعاً جداً في دخول هذه الأماكن والإقامة فيها دون أن أترك أثراً·
في رسائلها، حاولت أمي أن تقنعني بالعودة إلى ألمانيا لكي أباشر في تعلّم حرفة كانت قد دبّرتها لي في معمل مصوّر فوتوغرافي· كان عليّ أن أعود مع حلول سبتمبر حتى لا أفوّت سنة أخرى· كان طلباً مفاجئاً وملحّاً· هي تحدثت إلى خبير في التوظيف، أخبرها بأن صنع الأفلام مهنة يصعب الخوض فيها، ولأنني أنهيت امتحانات المدرسة الثانوية فقط، يتوجب عليّ أن أباشر العمل في معمل تصوير، وبعد ذلك بإمكاني أن أنتقل إلى معمل سينمائي والذي سيكون، حسب قوله، الأساس للبدء كمساعد مخرج في شركة سينمائية·
غير أن شيئاً آخر كان يدور في ذهني، وليس بوسع أحد أن يقنعني بغير ذلك·
أنت وُلدت في 1942، في ميونيخ، المدينة الأكبر في بافاريا· ما الذي يعنيه أن تنشأ في مرحلة ما بعد الحرب مباشرة؟
- بعد أيام قليلة من مولدي، تعرّض البيت المجاور لنا إلى التدمير بفعل قنبلة، وتضرّر بيتنا· كنا محظوظين لنجاتنا من القصف، فقد تعرّض مهْدي لرشاش من الزجاج المتطاير، لهذا قامت أمي بنقلي مع أخوتي إلى خارج المدينة، إلى ساشرانجSachrang وهي قرية جبلية صغيرة تقع على الحدود الألمانية - النمساوية·جبالKaisergebirge حول ساشرانج كانت أحد الجيوب الأخيرة للمقاومة في ألمانيا مع نهاية الحرب، وأحد المواقع الأخيرة التي انتقلت إليها القوات الأمريكية المحتلة· في ذلك الحين، كانت القوات النازية الخاصة (SS) (1) والـ (Werewolves(2)، الهاربة من قوات التحالف، تمرّ عبر القرية مخبئة أسلحتها وبزّاتها العسكرية تحت قشّ المزارعين قبل إيجاد ملاذ آمن لهم في الجبال·
كطفل، كنت مدركاً تماماً للتخوم بين ألمانيا والنمسا، نتيجةً لأن أمي غالباً ما تأخذني مع أخي الأكبر نحو الجانب الآخر من Wildbichl في النمسا· كانت تستخدمنا نحن الاثنين في مساعدتها لتهريب أشياء متنوعة إلى ألمانيا، أشياء لا يمكن إيجادها في الجانب الألماني من الحدود· في فترة ما بعد الحرب، التهريب كان أمراً من المقبول تماماً فعله·· حتى الشرطة كانت متورطة في ذلك·
طفولتي كانت منفصلة تماماً عن العالم الخارجي· لم أكن أعرف شيئاً عن السينما، وعن التليفون· السيارة حدث مثير بالنسبة لي· وساشرانج مكان معزول في ذلك الحين، مع أنها تبعد عن ميونيخ بالسيارة أكثر من 90 دقيقة· حتى أني لم أعرف ما هو الموز قبل بلوغي الثانية عشرة، ولم أجر مكالمتي الهاتفية الأولى إلا عندما بلغت السابعة عشرة· كذلك لم يكن لدينا في البيت مرحاض بماء دافق، ولا حتى مياه جارية· لم يكن لدينا فراش· كانت أمي تحشو الخنشار الجاف في كيس من الكتان· في الشتاء كان الجو بارداً جداً إلى حد أنني كنت أستيقظ في الصباح لأجد طبقة من الثلج متكوّمة على البطانية بفعل الأنفاس المتجمدة·
لكنه أمر رائع أن تكبر في جو ومحيط كهذا· كان علينا أن نبتكر ألعابنا الخاصة، مسلحين بقوة المخيّلة، والبنادق أو الأسلحة التي عثرنا عليها - من بقايا جنود الـ SS - أصبحت جزءاً مما نملكه·
في صباي شاركت كعضو في عصابة محلية· كنا نخترع عالماً كاملاً من حولنا· جزء مني لم يتكيّف أبداً مع الأشياء التي أجدها حولي، حتى يومنا هذا· حتى الآن لا أحسن التعامل مع التليفون· لازلت أجفل عندما أسمع رنين التليفون·
قد يبدو هذا غريباً، بالنسبة للناس اليوم، لكن أشياءَ مثل اكتشاف مخبأ للأسلحة تعزّز طفولةً رائعة· كل شخص يعتقد أن العيش والنشأة في خرائب وأنقاض المدن هي تجربة رهيبة وبغيضة، وبالنسبة للآباء الذين فقدوا كل شيء تماماً، ليس لديّ شك في أنها كانت تجربة مروعة، لكن بالنسبة للأطفال، تلك في الحقيقة من أكثر الأوقات روعةً وإدهاشاً· الصغار في المدن سيطروا على كل المباني التي تعرّضت للقصف، وأعلنوا أن أنقاض المباني ملك لهم يلعبون فيها ويجسدون المغامرات العظيمة· حقاً لا ينبغي أن ترثي لهؤلاء الصغار· كل شخص أعرفه، والذي قضى طفولته في خرائب ألمانيا، في مرحلة ما بعد الحرب، يطري ذلك الزمن ويتكلم بحماسة بالغة عنه· كانت مرحلة فوضى بالمعنى الأفضل للكلمة· لم يكن حولنا آباء يحكمون، ولا قوانين نتبعها أو نمتثل لها· علينا أن نخترع كل شيء من لا شيء·(3)
ما هي ذكرياتك المبكرة؟