"مدينة الله" رواية الروائي والقاص الفلسطيني الدكتور حسن حمي، عن منشورات المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، ومن غير القدس يمكن أن تكون مدينة الله؟!
You are here
قراءة كتاب مدينة الله
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

مدينة الله
الصفحة رقم: 3
سألت عنهن فقيل لي تنذر المرأة المقدسية نذراً لله، تقول: يا رب إن رزقتني ولداً، أو بنتاً أو فككت أسر زوجي المسجون، أو عدت لي بغائبي، أو شفيت لي مريضي، فإنني سأقوم بالخبز يوماً كاملاً أمام بيت المقدس، وأوزعه أنا وأولادي على المارة هبة وشكراً، لك يا رب·· فإن استجاب الله لها، توفي بنذرها·· فتأتي إلى هنا أمام بيت المقدس مع أولادها وطحينها، وصاجها، وزعترها، وجبنها، وقريشها·· فتخبز طول النهار، وأولادها يوزعون ما تخبزه على المارين هبة ونذوراً ·· وإلى الجوار حاملو قرب الماء يوزعون أكواب الماء المبرد مناولةً ، وقرب زوايا البيوت عازفون يسيلون من آلاتهم الموسيقية أنغاماً آسرة، وبقربهم صناديق خشبية وضعت عليها أجمات الورد·· راح المارون بالشوارع يستلون الورد وردةً وردةً، وثمة عازف ناي ينفخ في نايه فتلفّه الأبصار وهو يمشي رهواً كالخيول·
هنا، لا تدري ، وفي أي وقت تتعالى التكبيرات، ودقات النواقيس، كما لا تدري من أي الجهات تأتي الروائح الطيبة، ومن أين يتوافد الناس، والدراويش، وأصحاب العربات، والسلال، وكيف تجري الأسواق والحارات نحو بعضها بعضاً وتتلاقى مثل السواقي، هنا تسلم روحك للشوارع·· فتماشيك الظلال، والأنسام، وتباريك الوجوه التي تشبه أرغفة الخبز، ويدور بك التلفتُ والانتباه والصحو كي تلفّك غواية المكان، وكي تظل على مبعدة كفٍّ من غيبوبة الافتتان·
أصارحك بأنني مدهوش، ومسحور، أجلس، وأمشي، وأنا في حذر مشتهى أتمنى أن يطول، أشعر كأنني أرى ولا أرى، وأحسُّ بأن ضباباً أبيض فضياً أو يكاد يغشى المدينة·· فتستدير الهالات هنا وهناك وتتعالى في مرجحة كأنها مشدودة إلى حبال خفية تحجبها الغيوم·
هنا، لا تدري من بلل يديك ووجهك بالرذاذ النثيث، ومن منح هذه الوجوه الطالعة من كل الأمكنة نثار الضوء، ومن حباها بالبهجة الحالمة·· ومن أطلق طيور الحمام المتفلتة من أقفاص الهواء·· مثل الفلاحات لتمنح الدروب، والبيوت، والساحات، والحقول، والأشجار، والمفارق، والشبابيك·· نعمة النشور·
هنا، تشعر بأنك كائن أثيري، تمشي وراء حواسك مندفعاً·· تماماً مثلما تمشي الأنهار في مجاريها هبوطاً نحو مصباتها الدانية··
هنا·· لا شيء يفسد المكان، أو الهواء، أو الصفاء سوى هذه البغال السمان التي يعتليها الجنود السمان الثقال·· وقد اعتلتهم خوذ الحديد الشاحبة، يهزون أيديهم بهرواتهم الغليظة، وقد أُغلقت وجوههم·· لا شيء حولهم، أو قربهم سوى الكلاب، وسيارات الجيش، وحواجز الحديد ولا شيء يلفهم سوى النظرات الكارهة·· يبدون مثل كتابة بالفحم آيتها السواد·· تمرُّ بلوحة زاهية الألوان· لا شيء يضيّع إيقاع الخطا، والشوارع، والحارات الحانية، والأشجار، ووداعة الطيور·· سوى نخر البغال السمان، ونهرِ من اعتلوها·
بلى، يبدون، في هذا المشهد الرائق·· مثل نقطة سوداء حائرة
ملحوظة:
أعذرني، أطلت عليك، وربما أحزنتك·· فسامحني، أنتظر رسالتك باللهفة الكاملة·